رئيس التحرير : خالد خطار
آخر الأخبار

دقيقة..بقلم احمد الغزو

دقيقة..بقلم احمد الغزو
جوهرة العرب


احمد الغزو 

"دقيقة أنتهي من هذا المقطع وأغلقه"، عبارة يكررها الكثير منا عندما يشرعون في مشاهدة مقطع قصير على منصات عدة مثل "إنستغرام" أو "تيك توك."
 والعديد منا يعتقد أن هذه الدقيقة ستكون كافية للاستمتاع بلحظة قصيرة من التسلية قبل العودة إلى المهام اليومية، لكن ما يحدث عادة هو أننا ننسى الوقت تمامًا ونتابع المقطع التالي، ثم الذي يليه، وتستمر السلسلة حتى نكتشف أننا قد ضيعنا ساعات عديدة دون أن نشعر، إذ إنّ هذه اللحظات التي تبدو غير مؤذية في البداية يمكن أن يكون لها تأثيرات كبيرة على حياتنا اليومية إذا استمرت على هذا النحو.


وعندما نقوم بفتح تطبيقات وسائل التواصل الاجتماعي، يبدأ العقل في العمل بشكل مختلف عما كنا نعتقد، فغالبًا ما نغمر أنفسنا في هذه المقاطع القصيرة دون أن نلاحظ تأثير ذلك على وقتنا وأفكارنا،  ففي البداية، قد نشعر بالملل أو نبحث عن شيء ما ليسرع الوقت، فننتقل إلى الريلز، وفي تلك اللحظة يبدأ العقل الباطني في التفاعل مع هذا المحتوى الذي يعجبه، حيث تقوم الخوارزميات بتحديد نوع المحتوى الذي يثير اهتمامنا، وتعرض لنا تبعا لذلك مقاطع تتناسب مع أذواقنا الشخصية، فكل مقطع يعقب الآخر بشكل سلس، مما يجعلنا نغرق في بحر من التسلية المؤقتة.

إحدى الخصائص التي تجعل المقاطع القصيرة جذابة بشكل خاص هي طبيعتها السريعة والمثيرة، فكل مقطع يُقدم في فترة زمنية قصيرة، ما يجعلها مثالية لعقلنا الذي يبحث عن التشويق بشكل دائم، يشبه ذلك إلى حد كبير التنقل بين القنوات التلفزيونية: ننتقل بسرعة من مشهد إلى آخر، وكل مشهد يقدم شيئًا جديدًا ومثيرًا، ولكن دون أن نغرق في التفاصيل أو المعنى العميق.

لكن عندما نكون في هذه الحالة، فإننا ننسى تمامًا أننا كنا قد بدأنا بمشاهدة "مقطع واحد فقط"، ولا نشعر بالوقت الذي يمر، "دقيقة" تتحول إلى ساعة أو أكثر، ونحن لا ندرك ذلك. الخوارزميات تلعب دورًا كبيرًا في هذا الإغواء، حيث تستمر في عرض المقاطع التي نحبها، مما يجعلنا نتابع بشكل تلقائي، ودون تفكير فنجد أنفسنا ختاما قد ضيعنا وقتًا ثمينًا، وأثر ذلك الأمر يبدأ في الظهور بشكل غير مباشر في حياتنا.

التأثير على الحياة اليومية والإنتاجية:

عندما نضيع ساعات في مشاهدة المقاطع القصيرة، يصبح من الصعب علينا التركيز على المهام اليومية، فعندما نبدأ يومنا بحماسة ننجز الكثير من الأمور، لكن بمجرد أن ننغمس في هذا النوع من التسلية، نكتشف أن الوقت قد مر بسرعة، وأننا لم ننجز ما كان من المفترض أن ننجزه. هذا التشتيت المستمر يتركنا في حالة من الاندفاع، فبعد انتهاء ساعات من التصفح، نشعر بالندم على الوقت الذي ضاع دون أن نحصل على أي فائدة حقيقية.

أحد المشاكل الكبرى التي يعاني منها الكثيرون هي تأثير المقاطع القصيرة على قدرتنا على التفاعل مع الأنشطة التي تتطلب التركيز، مثل العمل أو الدراسة. حيث أصبحنا نعيش في حالة دائمة من التبديل بين الأنشطة السطحية، وهو ما يقلل قدرتنا على الانغماس في الأنشطة المعقدة التي تتطلب انتباهًا وتفكيرًا عميقًا. فكلما حاولنا العودة إلى العمل، نجد أن عقلنا مشغول بالمحتوى الذي استهلكناه، مما يؤدي إلى تراجع الإنتاجية.

الإدمان على التسلية السطحية:

واحدة من أبرز المشكلات التي تنشأ نتيجة لهذا الاستخدام المفرط للمقاطع القصيرة هي الإدمان على التسلية السطحية. حيث تقدم هذه المقاطع متعة فورية تملأ الفراغ، وتمنح عقولنا شعورًا بالراحة القصيرة، ولكنها تفتقر إلى القيمة الفعلية التي يمكن أن تساهم في تطوير شخصياتنا أو تحسين مهاراتنا. هذه المتعة السريعة قد تصبح إدمانًا، حيث يبحث الشخص بشكل مستمر عن "الجرعة التالية" من التسلية.

إنه نوع من الإشباع اللحظي الذي يجرنا إلى الاستمرار في البحث عن المزيد من المحتوى، وكلما شاهدنا المزيد، كلما أصبحنا أكثر تشوقًا للمزيد. هذا الشعور بالإشباع المؤقت يخلق دائرة مغلقة، حيث يصبح من الصعب إيقاف هذا التصفح المستمر. ويقودنا هذا الأمر نهاية إلى أن نتحول إلى أشخاص يعتمدون على وسائل التواصل الاجتماعي كأداة أساسية للهروب من الواقع، بدلًا من الاستمتاع بلحظات هادئة أو معقولة من الترفيه.

التأثيرات النفسية والاجتماعية:

لكن تأثير المقاطع القصيرة لا يقتصر على الجوانب العملية فقط، بل يمتد ليشمل التأثيرات النفسية والاجتماعية أيضًا. أحد الآثار الجانبية الأكثر شيوعًا هو الشعور بالقلق الاجتماعي أو الانعزال، ففي الوقت الذي نغرق فيه في هذه المقاطع، نجد أنفسنا بعيدين عن العلاقات الاجتماعية الحقيقية، التي تتطلب منا التفاعل الحقيقي مع الآخرين. فقد يكون أحدنا في ذات الغرفة مع شخص آخر، ولكننا نكون بعيدين عن الواقع، إذ إننا غارقون في العالم الافتراضي.

زيادة على ذلك، هناك تأثيرات نفسية أخرى تتعلق بالمقارنات الاجتماعية. غالبًا ما تُظهر المقاطع القصيرة حياة مثالية أو لحظات غير واقعية، ما يجعل الشخص يقارن نفسه مع الآخرين. هذه المقارنات قد تؤدي إلى مشاعر عدم الرضا أو القلق، خاصة إذا كانت حياة الشخص الحقيقية لا تتناسب مع الصورة المثالية التي يعرضها الآخرون.

كيف يمكن تجنب هذه العواقب؟

إدراك الأثر السلبي لهذه العادة وهو الخطوة الأولى نحو تقليص الوقت المهدور على المقاطع القصيرة، من المفيد أيضا وضع قيود زمنية على استخدام هذه المنصات، والتأكد من تخصيص أوقات مخصصة للتسلية والراحة. ولكن الأهم من ذلك هو أن نبحث عن طرق بديلة للاستمتاع والإنجاز، مثل ممارسة الأنشطة البدنية، أو القراءة، أو الاسترخاء بعيدًا عن الشاشات.

إن استعادة السيطرة على وقتنا يحتاج إلى بعض الجهد، لكن الفوائد التي سنحصدها بعد تقليل هذا الاستخدام ستكون كبيرة. عندما نغلق الشاشة بعد مشاهدة مقطع أو اثنين فقط، نستطيع إثر ذلك استعادة تركيزنا على ما هو أهم في حياتنا، سواء كان ذلك بالعمل، أوالعائلة، أو الاهتمام بأنفسنا.



في نهاية الأمر، "دقيقة" قد تكون أكثر من مجرد لحظة صغيرة على شاشة الهاتف. هي بوصلة توجهنا نحو كيفية استخدام وقتنا، ومدى تأثير هذه العادات على حياتنا، فعندما نستسلم للخوارزميات التي تعيدنا مرة تلو الأخرى إلى المقاطع القصيرة، نحن لا نضيع الوقت فحسب، بل نبتعد عن الأمور التي تمنح حياتنا معنى حقيقيًا.
 فإذا أراد أحدنا أن يعيش حياة أكثر توازنًا وإنتاجية، يجب أن يبدأ في إعادة تقييم كيفية استخدام هذا الوقت الذي يعتقد أنه "دقيقة" واحدة فقط، ليكتشف في النهاية أن هذه الدقيقة يمكن أن تكون بداية لتغيير كبير وجمّ في حياتنا.