رئيس التحرير : خالد خطار
آخر الأخبار

وماذا بعد الستين؟ كتبت الدكتورة علياء إبراهيم

وماذا بعد الستين؟ كتبت الدكتورة علياء إبراهيم
جوهرة العرب 


الدكتورة علياء إبراهيم 


لطالما آمنت أن القصة ليست مجرد حكاية تُروى للعظة والعبرة فقط، بل تمتلك قوة سحرية لتكون مصدرًا للإلهام، تُحرّك المشاعر، وتفتح نوافذ جديدة للأمل. فالقصة مرآة قد نرى فيها أنفسنا، وقد تساعدنا على إعادة تشكيل القناعات التي ظنناها راسخة، وتحفزنا على التغيير مهما كانت الظروف. ومن بين القصص الأكثر إلهامًا التي صادفتها مؤخرًا، قصص لأشخاص لم يكتفوا بطي صفحات التعلم عند سن معينة، بل بدأوا فصولًا جديدة بعد الستين، ليؤكدوا أن الشغف لا يعترف بالعمر، وأن الرغبة في النمو والتطور لا تخبو مع السنين. قصص هؤلاء الأشخاص تتعدى كونها مجرد محطات تأمل، بل هي شواهد على أن الحياة تمنح فرصًا جديدة لمن يملك الشجاعة ليطرق أبوابها، فقد بدأ أبطال هذه القصص رحلة جديدة في استكمال دراساتهم العليا بعد الستين. وكلما تعمقت في هذه القصص، تراءى لي سؤال: ماذا لو قرر الإنسان أن يبدأ حياة جديدة بعد الستين؟ ماذا لو جعل من سنواته جسرًا يعبر به إلى شغف قديم؟ وإذا بالتاريخ يجيب عن تساؤلاتي بأنه كم من عالم، كاتب، أو فنان تألق في سن متأخرة، ليترك بصمة لا تُنسى، وليثبت أن العمر ليس قيدًا، بل حافزًا لمواصلة الحلم! وأنا أؤمن أن الدراسة في هذه المرحلة، خاصة إذا كانت بدافع شخصي، ليست مجرد إضافة شهادة إلى السيرة الذاتية، بل هي قرار ينبع من إرادة حقيقية لتحقيق حلم قديم أو استثمار الخبرة العملية في بحث علمي جاد. فمنذ أكثر من عام، أذهلتني قصة السيدة آمال إسماعيل، والدة الصديقة الشاعرة الرقيقة د. شيرين العدوي، التي نالت درجة الماجستير في عمر الثمانين! أي مثال أعظم يُحتذى به؟ هذه السيدة، بابتسامة مشرقة وعيون تملؤها الحياة، ناقشت الماجستير وسط أبنائها وأحفادها، وكأنها تقول للعالم بصوتٍ واثق: "الشغف لا يعترف بالعمر!". الشغف، أيها القارئ العزيز، هو الوقود الذي يدفعنا لتحدي الزمن. وقد لمست ذلك بحكم عملي في التدريس الجامعي، وبحكم معرفتي بأساتذتي الذين تجاوزوا الثمانين بل والتسعين عامًا وما زالوا يقرأون، يبحثون، ويؤلفون. بل إن الدراسات تشير إلى أن التعلم المستمر في المراحل المتأخرة من الحياة لا يعزز فقط الوصلات العصبية ويقلل من خطر التدهور الإدراكي ويزيد من سعة الذاكرة، بل يحدّ أيضًا من احتمالية الإصابة بالزهايمر ويحسن المرونة الذهنية. فالعقل، كأي عضلة، كلما درّبته أكثر، ازداد قوة وحيوية. وكما ألهمتني قصة السيدة آمال، ألهمتني قصة السيدة ماجدة، التي لا أتذكر سوى اسمها الأول فقط والتي شاهدتها وهي تناقش رسالة الماجستير المهني، وهي على مشارف الستين، فقد قررت أن تفتح لنفسها بابًا جديدًا في المعرفة. على الرغم من سنوات طويلة قضتها في عالم الحسابات والأرقام، فإنها اختارت أن تبدأ دراسة الماجستير في الصحة النفسية، وسجلت للدكتوراه قائلة لي بثقة: "أريد أن أساعد أهل قريتي." أي إيمان هذا بأن العطاء لا يرتبط بعمر، ولا تحدّه وظيفة؟ وكذلك ألهمني المهندس محمد ياسر إبراهيم، رجل الأعمال الستيني، الذي قرر أن يعود إلى مقاعد الدراسة، كطالب يسعى لنيل درجة الدكتوراه. لم يكن قرارًا عابرًا، بل حلمًا قديمًا ظل يلح عليه، حتى قرر أن يمنح حلمه الحياة، ويمنحه البحث والدراسة والمناقشة مع المتخصصين أملًا ومذاقًا خاصًا للحياة، وكان الشغف هو الدافع الأكبر في رحلته، شغف المعرفة، شغف البحث، شغف تحقيق الذات. وها هو ينتظر مناقشة بحثه لنيل درجة الدكتوراه في غضون أيام قليلة. لا بد أنه يشعر بقلق إيجابي وتوتر محفز وشباب متجدد. وهذا ما جعله يردد دائمًا في دوراته التدريبية على المتدربين: "لا تدعوا الظروف تسلبكم حقكم في التعلم، ففي هذا العصر لن يكون هناك مكان إلا لمن يحرص كل لحظة على التعلم والتطور والمعرفة." وعندما أعود مرة أخرى لتأمل هذه القصص وهؤلاء الأشخاص الذين ألهموا بالتأكيد من حولهم، يتردد في ذهني صدى كلمة "اقرأ" كأول كلمة نزل بها الوحي على النبي محمد صلى الله عليه وسلم، تلك الدعوة الربانية لكل إنسان، في كل زمان ومكان، ليبدأ رحلة التعلم والاكتشاف. فالعلم ليس محطة نتوقف عندها، بل هو رحلة مستمرة ترافقنا في كل منعطف من حياتنا. وإذا كانت كلمة "بداية" تُقرن بالشباب، وكأن الأحلام تتوقف عند سن معينة، فهناك من قرر أن يكتب قصته الخاصة، حتى لو كان في الستين أو السبعين. إنها قصة إيمان بأن البدايات لا تموت، وأن الشغف يتجدد مع كل يوم، إنها الإرادة التي تصنع منا أبطالًا في أي عمر، وتمنحنا أملًا متجددًا في الحياة
  • وماذا بعد الستين؟ كتبت الدكتورة علياء إبراهيم
  • وماذا بعد الستين؟ كتبت الدكتورة علياء إبراهيم
  • وماذا بعد الستين؟ كتبت الدكتورة علياء إبراهيم