في بلدٍ كالأردن، اعتاد أن يقف شامخًا في وجه الأزمات، تتسلل إليه اليوم حالة ما تسمى (بجلد الذات الجماعي) حتى بات النقد الحاد والاتهامات المتطايرة في كل اتجاه، سلوكًا يوميًا يأخذ طابعًا "وطنياً"، لكنه في الحقيقة يخفي خلفه أزمة أعمق... أزمة انتماء أقرب ما تكون إلى إنتماء مشروخ وهوية متآكله من الداخل.
في السنوات الأخيرة، لم يعد الصوت المرتفع في الشارع الأردني يعكس فقط مطالب مشروعة بحقوق أو إصلاحات، بل تحول في كثير من الأحيان إلى حفلة جلدٍ للذات، وتحقير لكل ما هو محلي أو طني، وتضخيمٍ ممنهج للأخطاء، وكأن كل إنجاز لا يُرى، لا بل تعداها إلى دفن كل ما هو إيجابي وكأنه لم يكن، بينما يُسلَّط الضوء على كل عثرة، فتُضخَّم وتُستَخدم كذريعة للتشكيك والتقويض.
حين يُنجز شيء في البنية التحتية (مثلاً)، أو يتقدم الأردن في مؤشرات التعليم، أو يُحافَظ على استقرار سياسي وسط منطقة مشتعلة، تمرّ هذه الأخبار مرور الكرام. أما إذا تعطلت خدمة، أو حدث خطأ إداري، تتهافت وسائل التواصل والنقاشات لجلد المؤسسات والمسؤولين، بأسلوب لا يخلو من المبالغة، ولا يفرّق بين فساد حقيقي وخطأ بشري.
هذه الحالة لا يمكن أن تُفهم بمعزل عن محيط إقليمي ودولي تغذيه أجندات لا تخفى على أحد. هناك من يريد للأردني أن يشعر بالهزيمة، أن يفقد الثقة بنفسه وبمؤسساته، وأن يعيش في حالة من السخط الدائم. أجندات ترى في استقرار الأردن تهديدًا، وفي وعي الأردني خطرًا على مشاريعها.
لم يعد الشارع الأردني يعبّر دائمًا عن مطالب واضحة بقدر ما يُستَخدم كوسيلة ضغط وفوضى من قِبل أطراف خارجية، نجحت إلى حد كبير في استغلال ضعف الخطاب الوطني، وتراجع الانتماء، لتسويق رسائلها.
لقد تحوّل مفهوم الانتماء إلى شعارات موسمية، لا تجد جذورًا حقيقية في سلوك الأفراد. كيف يُمكن بناء وطن، حين يصبح الشاب الأردني أكثر افتخارًا بلهجة أجنبية يتقنها، أو بأفكار ثورية مستوردة، أكثر من افتخاره بتاريخه، ولهجته، وإنجازات وطنه؟
ما يجري ليس مجرد نقد سلبي، بل هو تآكل بطيء للهوية الوطنية. فحين لا نعود نثق بأنفسنا، ولا نتحدث عن أنفسنا بإيجابية، ولا نقدّر ما تحقق في ظروف قاهرة، فإننا نُمهّد الطريق لانفصالنا النفسي عن الوطن، وتفكيك الرابط بين المواطن والدولة، وهو ما تسعى إليه جهات كثيرة، داخليًا وخارجيًا.
الدفاع عن الأجهزة الأمنية وتقدير دورها واجب وطني ومكوّن أساسي من مواطنتنا الصادقة. فالدولة ليست فقط جدرانًا وقوانين، بل هي كيان حيّ يقوم على أمنٍ نحميه، ومؤسسات نُصلحها لا نهدّمها، وجيش نعتز به لأنه حَمى الوطن حين اهتزّت خرائط الجوار. إن دعم هذه المؤسسات هو دعمٌ لاستقرارنا، وهويتنا، ومستقبل أولادنا."
من اللافت – والمُريب أن ترى من يهاجم الأردن ومؤسساته ودوره الوطني والقومي بصوتٍ مرتفع، تراه نفسه في دولٍ أخرى يُمجّد، ويُصفّق، ويغضّ الطرف عن مواقف كانت لتُشعل الدنيا لو صدرت هنا. هذه الازدواجية لم تعد مجرد سلوك فردي، بل أصبحت نهجًا يُدار أحيانًا عن قصد، وبتغذية ممنهجة، لتشويه صورة الأردن وضرب الثقة بين المواطن ودولته، تشعر أن هناك شيئًا أكبر من مجرد رأي حر... هناك مؤامرة تحاك. وتشويه متعمّد، يُحاول أن يُربك الوعي الجمعي، ويُحبط النفوس، ويقلب المواقف، في وقت أحوج ما نكون فيه للتماسك والتبصّر. حيث إعتدنا ومنذ تأسيس الدولة ان الأردن ليس فوق النقد، لكنه فوق التشكيك. ومَن ينتقده بصدق، لا يصفّق للغير حين يقمعون، ولا يسكت حين تُدهس الكرامات.
ليس المطلوب تجاهل الأخطاء، ولا تسويق الإنجازات بشكل دعائي. المطلوب هو الموازنة بين النقد والمراجعة من جهة، وبين الاعتراف بالإنجازات والدفاع عنها من جهة أخرى. المطلوب خطاب وطني صادق، يعترف بالمشاكل، لكنه لا يسمح بتضخيمها على حساب الاستقرار والهوية. المطلوب أن نستعيد الإيمان بأن الأردن، رغم التحديات، صامد بفضل شعبه ومؤسساته، وأن النقد الحقيقي يبدأ من محبة الوطن لا من كراهيته.
لم يكن الأردن في يومٍ من الأيام كيانًا سياسيًا هشًا كما يُصوّره البعض، ولن يكون. فالدولة التي صمدت في وجه التحولات الكبرى، وحافظت على تماسكها وسط محيط ملتهب هي دولة عظيمة، الأردن وطنٌ بناه رجاله بالصبر لا بالشعارات، بالتضحيات لا بالمزايدات، وطنٌ يحتاج منا أن نؤمن به كما نؤمن بأنفسنا. وأن ننتقده نعم، لكن بصدقٍ لا بكراهية، وبحرصٍ لا بهدم، وبوعيٍ لا بتجريح أو تجريم.
في زمن اختلطت فيه النوايا، وتكاثرت فيه الأبواق التي تزرع الشك وتنشر السخط، يصبح الدفاع عن الوطن مسؤولية أخلاقية لا سياسية فقط. يصبح من واجبنا أن نميّز بين النقد البنّاء الذي يصحّح المسار، وبين ذلك الذي يخدم أجندات لا تريد للأردن أن يبقى متماسكًا.
الأردن باقٍ، ثابت، لكنه بحاجة إلى وعي أبنائه قبل أي شيء. فالدولة تُحمى بالعقول كما تُحمى بالسلاح، وتُبنى بالكلمة الصادقة لا بالصراخ الفارغ.
المرحلة ليست سهلة. والوعي لم يعد ترفًا، بل حاجة وجودية. إنّ الدفاع عن الأردن، اليوم، لا يكون فقط بالحناجر ولا بالشعارات، بل بإعادة ترميم الانتماء، وتحصين الهوية، والإيمان بأن وطنًا بهذا التاريخ، وبهذه القيمة، يستحق أن نختلف فيه، لا أن نختلف عليه.