رئيس التحرير : خالد خطار
آخر الأخبار

الفجوة الرقمية والمسرح بقلم دكتور عماد هادي الخفاجي

الفجوة الرقمية والمسرح  بقلم دكتور عماد هادي الخفاجي
جوهرة العرب 

 دكتور عماد هادي الخفاجي

 في زمن تتسارع فيه التحولات الرقمية وتتغلغل التكنولوجيا في تفاصيل الحياة اليومية، يجد المسرح نفسه واقفا على تخوم سؤال حاد كيف يستمر بوصفه فناً حياً في عالم بات يربط الفعل الثقافي بقوة الوسائط وحداثة الأدوات؟.. لم يعد التحدي محصورا في الحفاظ على حضور المسرح بل في مدى قدرته على العبور نحو المستقبل من دون أن يفقد جوهره. وبينما يشهد العالم اندماجا تاما بين الفن والتقنيات الرقمية، تتسع في المقابل فجوة خفية لكنها حاسمة، هي ما يمكن تسميته بـ(الفجوة الرقمية المسرحية)، والتي لا تقف عند حدود التقنية بل تمتد لتلامس العدالة الثقافية وتعيد تشكيل خرائط التمثيل والتأثير.

هذه الفجوة لا تظهر فقط في غياب الإضاءة الذكية أو الخلفيات التفاعلية، بل في عمق البنية التحتية والدعم المعرفي والاقتصادي الذي يتيح لفريق ما أن يتعامل مع التكنولوجيا كجزء من لغته التعبيرية، بينما يظل فريق آخر مكبلا بعجزه عن توفير أبسط مقومات العرض. في مدن تتمتع بشبكات دعم رقمي وإعلامي، تصبح العروض المسرحية جزءا من الحراك الثقافي العالمي، بينما تظل أعمال فرق مسرحية في ضواحي مهمشة أو بلدان تعاني من نقص الاستثمار الثقافي رهينة النسيان أو التهميش مهما كانت غناها الفني وصدقها الإبداعي.

الأخطر من ذلك أن هذه الفجوة لا تنتج فقط تباينا في الأشكال بل تعيد ترسيخ علاقات غير عادلة في التمثيل الثقافي حيث يصبح من يمتلك الوسائط هو من يملك شرعية الحضور ومن لا يملكها يُدفع به إلى الظل. ان الحداثة هنا تتحول إلى قناع لا يعكس بالضرورة عمق التجربة أو صدقها بل يعرض للعيون ما يمكن ترويجه وتسويقه فحسب، وكم من تجربة مسرحية حقيقية صادقة، نابضة، ضاعت لأنها لم تُوثق بصورة احترافية؟ وكم من عرض تافه، فارغ من المعنى، حظي بالاهتمام لأنه استطاع أن يظهر بواجهة تقنية براقة؟ فالمسرح الذي وُلد من التفاعل الحي واللقاء المباشر يواجه اليوم خطر الانزلاق نحو صيغ تمثيلية تُقدم الشكل على حساب الجوهر وتحتفي بالقابل للتسويق لا القابل للتأمل. لكن هل يكون الحل في تعميم التكنولوجيا؟ أم في خلق عدالة الوصول إليها؟ ليست الحداثة مرهونة بالأدوات بل بكيفية توظيفها وبالوعي النقدي الذي يصاحبها، لان المسرح لا يحتاج فقط إلى معدات رقمية بل إلى بنى ثقافية تضمن له حقه في الوجود، في التمثيل، في أن يُسمع ويُشاهد ويُقيم بمعايير عادلة وإن بناء منظومة مسرحية رقمية لا يعني أن نعيد إنتاج الهيمنة ذاتها بل أن نكسرها وأن يُتاح للطاقات المختلفة فرصا متساوية، وأن نمنح الهامش حق المركز لا من خلال المجاملة بل عبر تأهيل حقيقي يضمن التعبير والتطور والاستمرارية.

في نهاية المطاف لا ينبغي أن يتحول المسرح إلى تابع للتقنية ولا أن يُختزل في صورته الرقمية لان المسرح حين يكون حيا، صادقا، قادرا على طرح الأسئلة ومواجهة الواقع يظل واحدا من أعمق أشكال الوعي الإنساني ومعركته اليوم ليست فقط في البقاء بل في استرداد صوته وسط ضجيج العوالم الافتراضية، وإذا كنا نريد مسرحا للمستقبل فعلينا أن نضمن ألا يُترك أحد خلف الستار… لأن الحقيقة غالبا ما تُقال من الهامش والمسرح وُلد من الهامش ويجب أن يبقى قادرا على قولها مهما اختلفت وسائط التعبير