رئيس التحرير : خالد خطار
آخر الأخبار

الوطن والفقد – بين الألم والتجدُّد بقلم/ د. سامية كيحل

الوطن والفقد – بين الألم والتجدُّد بقلم/ د. سامية كيحل
جوهرة العرب 


بقلم/ د. سامية كيحل سفيرة التحدي و السلام 
( الجزائر)
__
في لحظات السكون العميق، حيث تختلط الألوان والأصوات، لا يكون السؤال الأكثر حضورًا هو: "ماذا فقدنا؟"، بل "كيف نُعيد بناء ما تآكل في داخلنا؟". الوطن ليس مجرد بقعة أرض أو حدود جغرافية، بل هو حكاية تكتمل بأرواحنا، بل هو جسر بين الماضي واللحظة الآنية، وبين الحلم والواقع. وعندما يختفي هذا الوطن، أو نتوهم أنه اختفى، تَطلُ علينا الحقيقة: الوطن ليس في الخارج، بل فينا.

عندما يتغير الوطن، أو عندما يخذلنا، نفقد كثيرًا من مرجعياتنا النفسية والعاطفية، حتى تلك التي كنا نعتقد أنها ثابتة. يتلاشى شعور الأمان، وتبدأ الأسئلة في التسلل إلى أعماقنا: "من أكون الآن؟ هل ما زلت ذلك الشخص الذي كنت أعرفه في زوايا هذا الوطن؟" في هذا الفقد، نجد أنفسنا في مواجهة مع جزء عميق من هويتنا، مع ما نحتفظ به في داخلنا من صور عن الذات.

لكن الفقد، في حقيقته، هو دعوة لاختبار قدرتنا على التحول. نحن لا نفقد فقط جزءًا من المكان أو الزمان، بل نفقد جزءًا من الصورة التي رسمناها لأنفسنا في تلك اللحظات. وبدلاً من أن ننكسر في هذا الفقد، نكتشف أن الألم لا يُعبّر عن النهاية، بل هو المعبر الذي يقودنا إلى بداية جديدة.

الفقد يعلمنا كيف نعيد اكتشاف أنفسنا، كيف نُعيد تشكيل تلك الأجزاء التي ظننا أنها ضاعت للأبد. لكن ليس الفقد هو الذي يعيدنا إلى الحياة، بل هو الوعي الذي يولد من رحم هذا الفقد. في اللحظة التي نُدرك فيها أن ما فقدناه هو جزء من قصة أكبر، نبدأ في النظر إلى الألم كـ "منحة" للانطلاق نحو الوجود الحقيقي.

نحن لا نعود إلى الوطن أحيانًا، لأننا في الواقع لم نغادره أبدًا. نحن نحمل في داخلنا تفاصيله، صورته، عطره، وحتى أوجاعه. نعيش الوطن كما نعيش الذكريات، نقيم فيه دون أن ندرك أننا نحمل عبءه بين الأضلع. لذا، الفقد في بعض الأحيان هو فرصة لإعادة رؤية الوطن بشكل أعمق، بشكل أكثر نضجًا. في هذا السياق، يصبح الفقد ليس هزيمة، بل هو النصر الذي تراه العين البعيدة، وهو اللحظة التي تلتقط فيها الروح الأمل من بين غيوم الحزن.

الوطن الذي نتحدث عنه ليس مكانًا فحسب، بل هو رحلة داخل الذات، تجسيد للروح التي لا تنكسر. الوطن هو تلك المساحة التي نشعر فيها أننا نتمكن من أن نكون أنفسنا بتمامها، بكل قوتها وضعفها. وعندما نتعرض لفقد هذا "الوطن"، نقف أمام الحقيقة التي يخشى البعض مواجهتها: الوطن ليس أبدًا في الخارج، بل هو في أعماقنا. هو الروح التي لا تخشى الفقد، بل تتعلم كيف تنبعث منه أقوى مما كانت عليه.

في النهاية، لا تتوقف الحياة بعد الفقد. بل هو جسر نمر عليه لنصعد إلى مستوى أعلى من الوعي. في الفقد، نكتشف أبعادًا جديدة في أنفسنا، نقاوم الظلام وننقض على الأمل. إذا كان الوطن قد تغيّر، فالحقيقة أن ما تغيّر هو صورتنا له، وليس الوطن نفسه. ففي عمق الفقد يكمن اكتشاف أعظم: نحن الوطن، نحن الذين نصنعه في كل لحظة.