عندما تُذكر كلمة "عقوق"، غالبًا ما تتجه أصابع الاتهام نحو الأبناء. تربّينا على فكرة أن "العقوق" خطيئة لا تُغتفر من الابن تجاه والده، وأن على الأبناء الطاعة والاحترام مهما كانت الظروف.
لكن ماذا عن الوجه الآخر للعملة؟
ماذا عن آباء يطعنون براءة أبنائهم كل يوم… لا بالصراخ فقط، بل بكلمات، ومواقف، وصمت قد يكون أقسى من الأذى المباشر؟
في هذا المقال، نسلط الضوء على أشكال من العقوق يمارسها بعض الآباء دون وعي، لكنها تترك جراحًا طويلة الأمد في نفس الطفل.
1. التحقير المستمر: كسر بلا صوت
حين يسمع الطفل مرارًا وتكرارًا عبارات مثل:
"أنت غبي… ما راح يطلع منك شي… فاشل مثل أمك/أبيك…"
فإن هذه الكلمات لا تمر مرور الكرام. هي كالمطر الحمضي، تتسرب إلى الداخل، وتذيب مع الوقت ثقة الطفل بنفسه.
قد يضحك ظاهريًا، أو يتظاهر باللامبالاة… لكنه في الداخل يبدأ بتصديق تلك العبارات.
تتشكل لديه قناعة خفية: "أنا لا أستحق النجاح".
التحقير لا يُعدّ وسيلة تربية، بل أداة هدم نفسي.
2. المقارنة القاتلة: إطفاء التميز
"شوف ابن عمك كيف شاطر"، "ليش ما تكون مثل أختك؟"
الطفل لا يملك الخبرة الكافية ليفهم الفروق الفردية، لكنه يملك قلبًا حساسًا يشعر بالخذلان.
المقارنة لا تزرع الطموح، بل تنسف الثقة بالنفس وتُشعل نار الغيرة.
بدلًا من أن يرى في الآخرين مصدر إلهام، يراهم خصومًا ومصدر خطر على حب والديه له.
كل طفل مميز بطريقته، والمقارنة تسرق منه هذا الإحساس.
3. التجاهل العاطفي: الصمت الذي يوجع
ليس كل الأذى يُقال.
أحيانًا، ما لا يُقال هو الأشد وجعًا.
طفل يركض ليُري والده رسمة رسمها بنفسه، فلا يجد نظرة ولا كلمة.
طفلة تحاول احتضان أمها، فتُدفع برفق دون تفاعل.
النتيجة؟
يبدأ الطفل في بناء فكرة داخلية: "أنا غير مرئي… وجودي لا يُحدث فرقًا".
التجاهل العاطفي لا يعني فقط غياب الكلمات، بل غياب الدعم، الاحتواء، والمشاركة الوجدانية.
4. فرض الأحلام: القتل البطيء للهوية
كم من موهبة دفنت تحت جملة: "ما في شغل بالرسم"، أو "الطب أحسن مستقبل".
حين يُجبر الطفل على أن يكون نسخة عن طموحات والديه، يفقد شيئًا من ذاته.
ربما ينجح أكاديميًا، لكن بداخله فراغ.
ربما يُرضي والده بشهادة، لكنه يعيش عمره يبحث عن معنى لحياته.
التربية الحقيقية تدعم شغف الطفل، لا تفرض عليه وجهة لا تشبهه.
5. القسوة باسم التربية: الخوف لا يُربّي
الضرب، الصراخ، والتهديد المستمر تُبرّر أحيانًا تحت شعار "التقويم".
لكن الحقيقة أن الطفل الذي يُربّى بالخوف، لا يُصبح مطيعًا، بل خائفًا، متوترًا، وربما كاذبًا ليحمي نفسه.
القسوة لا تُعلّم الاحترام، بل تُعلّم الانكسار، والانسحاب، أو التمرد الصامت.
البيت ينبغي أن يكون حضنًا دافئًا، لا ساحة معركة.
العلاقة ليست استحقاقًا… بل أمانة
الوالدية ليست بطاقة تمنح صاحبها سلطة مطلقة، بل مسؤولية عظيمة تبدأ بالحب، وتنضج بالعدل، وتزدهر بالرحمة.
الطفل الذي يكبر في بيئة يُعامَل فيها بكرامة، يتعلم بدوره كيف يُكرم الآخرين.
أما الطفل الذي لا يشعر بالأمان من والديه، فكيف له أن يثق بالعالم الخارجي؟
وأخيرًا…
حين يكون الأب أو الأم مصدر دعم، احترام، واحتواء، فإن طريق البرّ يُعبد تلقائيًا.
الطفل لا يحتاج إلى قوانين صارمة ليحب والديه… بل إلى قلب دافئ يشعره بأنه محبوب كما هو.