من "شات جي بي تي" إلى غرف الأخبار.. الذكاء الاصطناعي أداة لا بديل للإنسان
حقوق الإنسان وحماية الإعلام بين الواقع ومؤشرات التطبيق
الإعلام السوري بين القمع والتحولات.. مسؤوليات وتحديات مستمرة
شهد ملتقى مستقبل الاعلام والاتصال، في يومه الثاني والأخير اليوم الأحد، انعقاد جلساتٍ موازية فتحت نقاشاتٍ حول تحديات الإعلام في المنطقة وآفاق تطوّره؛ إذ تناولت إحداها واقع الإعلام السوري بين عهدين وما حمله من تحوّلات سياسية ومهنية، بينما طرحت أخرى تساؤلًا حول ما إذا كانت المؤسسات الوطنية لحقوق الإنسان قد قامت فعلًا بدور حقيقي في حماية استقلاليّة الإعلام وضمان حريته. وفي سياق مختلف، ناقشت جلسة ثالثة تأثير الذكاء الاصطناعي على صناعة المحتوى وما يفرضه من فرص وتحديات على مستقبل العمل الإعلامي.
المحتوى في زمن الذكاء الاصطناعي
شهدت جلسة متخصصة نقاشًا حول صناعة المحتوى في عصر الذكاء الاصطناعي، شارك فيها مدير ومقدّم برنامج "جعفر توك" في مؤسسة دويتشه فيله جعفر عبدالكريم، ومدير السوشال ميديا في منصة بلينكس إسماعيل كايا، فيما أدارت الحوار الإعلامية يُسر حسان.
واستعرض عبدالكريم تجربته الأولى مع الذكاء الاصطناعي عندما استعان به في التحضير لمقابلة صحفية، مبينًا أن أحد أبرز التحديات يكمن في الاتكالية على هذه الأدوات. وأوضح أن الذكاء الاصطناعي جعل صناعة المحتوى أسرع وأكثر فاعلية، لكنه لا يمكن أن يحل محل العقل البشري والأفكار والروح والحس الصحفي أو حضور الصحفي بين الناس في الميدان.
وأكد أن هذه الأدوات يمكن أن تساعده في اللغة العربية وصياغة القصة، لكنها تظل مجرد أدوات مساعدة، بينما يبقى الابتكار والصدق مع الذات من أهم مهارات صانع المحتوى.
وأشار عبدالكريم إلى ضرورة الشفافية في استخدام الذكاء الاصطناعي، لافتًا إلى تفاوت المعايير بين المؤسسات الإعلامية العربية، ومشدّدًا على التزام الصحفيين بالتحقق من المصادر ونقل الأخبار بمهنية.
وأضاف أن صانع المحتوى يتمتع بحرية أكبر من الصحفي، لكنه قد يحوّل الخبر إلى مجرد "تريند" بلا قيمة مضافة إذا اختار إخفاء الآراء التي لا تناسبه، معتبرًا أن الأخلاق الصحفية هي المسؤولية الجوهرية التي يجب عدم التخلي عنها عند استخدام هذه الأدوات.
وشدد عبد الكريم على أن إدماج اللغة العربية في عالم الذكاء الاصطناعي يتطلب وعيًا بقيمة الهوية والثقافة والتاريخ. وقال إن الصدق مع الذات هو المهارة الأهم لصانع المحتوى في هذا العصر.
من جانبه، ركّز كايا على أهمية البصمة والجانب الإنساني في صناعة المحتوى، معتبرًا أن الجماهير لن تنجذب لمحتوى يفتقد الروح الإنسانية. وأوضح أن الذكاء الاصطناعي ما يزال في بداياته، محذرًا من خطر الاستنساخ والتكرار، ومؤكدًا أن مواكبة الأدوات الجديدة يجب أن ترافقها مراقبة دائمة لتفاعل الجمهور معها.
وبيّن أن أولى تجاربه مع "شات جي بي تي" كانت في كتابة العناوين والتعليقات على وسائل التواصل الاجتماعي، حيث ساعدته الأداة في إبراز زوايا لم تكن حاضرة في التفكير البشري، لكن اللمسة الإنسانية تبقى أساسية.
وأشار إلى أن الذكاء الاصطناعي لن يكون بديلًا عن الإنسان، بل يزيد من صعوبة مهام غرف الأخبار التي يتوجب عليها التدقيق في المحتوى والتأكد من أنه غير مكرر أو فاقد للعنصر الإنساني. وأضاف أن المعايير التحريرية والخيارات السياسية قد تقلل الحاجة إلى بعض الصحفيين، لكنها في المقابل ترفع الطلب على آخرين يمتلكون مهارات دقيقة تضمن جودة ومصداقية المحتوى.
وتناول كايا مستقبل الوظائف الإعلامية، متوقعًا أن بعضها قد يختفي، فيما تظهر وظائف جديدة تتناسب مع متطلبات العصر. كما أوضح أن استخدام المؤثرين للذكاء الاصطناعي لا يواجه محاذير مباشرة، لكنه يستدعي التزامًا بمعايير الاستخدام السليم لتجنب إنتاج محتوى مكرر أو بلا قيمة.
أما في ما يتعلق باللغة العربية، فاعتبر أن التحدي أعمق من حدود "شات جي بي تي"، موضحًا أن ضعف قواعد البيانات العربية مقارنة بلغات أخرى يقلل من فعالية النتائج، ما يجعل البحث باللغة الإنجليزية أكثر ثراءً. وأشار إلى أن استثمارات عربية واعدة قد تعزز حضور اللغة العربية في مشهد الذكاء الاصطناعي خلال المرحلة المقبلة.
حقوق الإنسان وحماية الإعلام
أقيمت جلسة بعنوان "المؤسسات الوطنية لحقوق الإنسان.. هل دافعت عن استقلالية الإعلام ووفرت له الحماية؟" بمشاركة رئيسة مجلس أمناء المركز الوطني لحقوق الإنسان، ومدير الإدارة القانونية للجنة الوطنية لحقوق الإنسان القطرية ناصر المري، والخبير والمدرب في حقوق الإنسان رياض صبح، وأدار الجلسة الإعلامي نبيل الحاج.
وقالت الحاج حسن أن دور المؤسسات مهم جدًا في حماية وضمان حقوق الإنسان واستقلالية الإعلام، وعليها أن تكون مستقلة حتى تدافع عن إعلام مستقل لأنه الحجر الأساس للديمقراطيات، موضحةً أن الأدوار التي تقوم بها مؤسسات حقوق الإنسان هي الحماية من خلال توفير بيئة تشريعية ناظمة متمكنة.
وتحدثت عن وجود تحدياتٍ لمؤسسات حقوق الإنسان التي تعمل على تغيير الخطاب والتعامل مع السلطة التنفيذية والبرلمان للأخذ بالتوصيات التي تخرج بها مؤسسات الحقوق والمركز الوطني لحقوق الإنسان.
وأوضحت أن المركز بدأ ببرنامج لتدريب ضباط الارتباط في الوزارات؛ ليفهموا حقوق الإنسان والإعلام بشكلٍ أكبر، مبينةً مخاطبته للسلطات التنفيذية دائماً بأن حقوق الإنسان وحماية الإعلام مسؤولية وطنية مهمة وتنفيذها يتم بيد واحدة، لذا لا بد من تغيير منهج عمل المؤسسات نفسها.
وأكدت الحاج حسن وجود درجة كبيرة من الحرية والاستقلالية في الإعلام الأردنيّ وهذا عكس التقييم الصادر عن شبكة مراسلون بلا حدود والذي يضع الأردن في قائمة الخط الأحمر في الحقوق والحريات، قائلةً إنَّ صدور المعلومة يتم بعد تلقي الشكاوي والرصد الميداني، لافتةً إلى كونها لا تجد أنَّ الدراسة والبيانات الصادرة عن الشبكة صحيحة.
من جانبه قال المري إن قطر وضمن تطبيق حرية الإعلام وحقوق الإنسان قامت بالحماية الدستورية القطرية وحرية الرأي والبحث العلمي وحرية الصحافة والطباعة والنشر، إضافة إلى إنشاء المدينة الإعلامية، موضحاً أن دولة قطر شهدت العديد من التحولات السياسية والثقافية والاجتماعية.
وجرى خلال الجلسة سجال حول قناة الجزيرة وما تبثه وهل تعتبر نفسها قطرية أم عربية ولمَ لا يتم نشر الأخبار القطرية على الجزيرة، وقال إلمري إن الجزيرة قطرية وبالفعل تنشر أخباراً قطرية.
وأكد المري استقلاليّة الإعلام القطري الذي يتناول آراء الحكومة ومؤسسات حقوق الإنسان، وأن قانون الجرائم الإلكتروني القطريّ بتعديلاته الجديدة مُرضِيّ، ويذكر المركز الوطني القطري من خلال تقاريره السنويّة كل الأمور التي قد تقيّد حريّة التعبير.
وأبدى خلال حديثه مقترحاً يسعى لضمان الحقوق، وهو إيجاد صك ملزم دولياً لحماية الحريات والحقوق لا سيما وأنه لا صك دولي فعلي.
في المقابل قال صبح إن المسألة الأساسية هي الدور الرقابي والاستشاري لمؤسسات حقوق الإنسان، وانعكاسه ليس مرهوناً بها وحسب، وأنَّ المؤسسات الوطنية في الأردن تقوم بإرسال البيانات وتلقي الشكاوى والدراسات بما يتناسب مع قانون باريس، غير أنها تعمل في جهة والبرلمان والحكومة في جهةٍ أُخرى والسلطات في جهةٍ ثالثة وهو ما يعيق التقدّم.
وأضاف أن تفاعل الحكومة مع المؤسسات الوطنية قد يواجه أحيانًا حالة من عدم القناعة أو عدم توافق المخرجات مع رؤيتها، والدليل على ذلك أن البرلمان الأردني لم يعقد ولو لمرة واحدة جلسة خاصة لمناقشة تقارير حقوق الإنسان.
وبيّن صبح أن بعض المؤشرات الصادرة عن شبكات ومراكز دولية حول وضع الأردن قد تكون دقيقة إلى حدّ ما، خاصة وأن العديد من النصوص القانونية تبقى فضفاضة أو مقيدة، وهو ما أوجد فجوة دفعت الصحفيين والإعلاميين إلى ممارسة رقابة ذاتية على أنفسهم أثناء عملهم، خشية من المساءلة أو التوقيف.
سوريا والإعلام
وانعقدت جلسة حوارية بعنوان "الاعلام السوري بين عهدين ... التحولات المطلوبة"، شارك فيها أمين العلاقات العامة في اتحاد الصحفيين السوريين براء عثمان، وعضو المكتب التنفيذي لرابطة الصحفيين السوريين لمى راجح، ومدير تلفزيون سوريا علي حميدي، ويسّرتها نور الهدى مراد.
وحول بدايات العمل الإعلامي مع انطلاق الثورة السورية، أكد عثمان أن الإعلام لم يكن في أفضل حال؛ إذ غابت البنى المؤسسية واضطر كثيرون، من دون خلفية إعلامية أو حتى تعليم ثانوي، إلى حمل الكاميرا وتوثيق الانتهاكات بحق المدنيين.
وأشار إلى أن غياب الإعلام في تلك الفترة ساعد النظام على ارتكاب مجازر بحق السوريين من دون رصد أو توثيق كافٍ، ما جعل الصحفيين يشعرون بمسؤولية مضاعفة لتغطية كل تحرك ميداني بكثافة، رغم أنهم لم يتقاضوا أجرًا.
وأضاف عثمان أنه مع مرور السنوات بدأ الإعلاميون يكتشفون أخطاءهم المهنية، وساعد الأكاديميون في رفع مستوى الأداء تدريجيًا؛ فتم تأسيس أجسام نقابية وتطوير مهارات مثل المونتاج والتصوير، ومع ذلك ظل معظم العمل الإعلامي ارتجاليًا وتوثيقيًا، بعيدًا عن الممارسة العلمية والمنهجية الصحفية الرصينة
من جانبه قال حميدي إنه وقبل عام 2011 لم يكن في سوريا إعلام مستقل بالمعنى الحقيقي، بل كان الإعلام أداة دعائية بيد السلطة ومع اندلاع الثورة، ظهر إعلام المواطن والضحايا والناشطين، الذين سعوا قدر الإمكان إلى نقل ما يحدث، في ظل غياب أي وسيلة أخرى لإيصال الحقيقة، مشيرًا إلى أن بعض هؤلاء تحولوا لاحقًا إلى صحفيين محترفين في مؤسسات سورية وعربية.
وأضاف أن الإعلام السوري مرّ بمراحل عديدة، تحوّل في بعضها إلى أداة دعائية بيد الفصائل والجهات الممولة، وصولًا إلى مرحلة السنوات الأخيرة التي اتسمت باليأس، إذ تراجع الإعلام الحر بشكل شبه كامل، ولم يبقَ من داخل سوريا سوى الرواية الرسمية للنظام وحلفائه.
وبدورها أكدت راجح أن الصحفيين في سوريا عانوا طويلًا من التقييد والملاحقات الأمنية والاعتقال والتعذيب، ما اضطر كثيرين إلى ممارسة عملهم من خارج البلاد، مشيرةً إلى أن التحولات السياسية الراهنة تفتح نافذة أمل نحو كفالة حرية الرأي والتعبير، لكنها ما تزال تصطدم بتحديات عدة.
وذكرت أن أبرز التحديات الحالية تكمن في غياب التشريعات القانونية وتعطيل قانون الإعلام الصادر عام 2012، إضافة إلى نقص الإجراءات الواضحة للحصول على المعلومات بشكل شفاف يعزز المساءلة.
وحذرت راجح من تصاعد خطاب الكراهية في بعض المناطق السورية، خاصة عبر وسائل التواصل الاجتماعي وبعض المؤسسات الإعلامية التي خرجت عن استقلاليتها، مشددة على الحاجة إلى قوانين رادعة تحمي المجتمع من هذا الخطاب وتضمن مهنية الإعلام.
واختتمت اليوم الاحد في العاصمة عمّان أعمال ملتقى مستقبل الإعلام والاتصال في دورته الثالثة الذي استمر على مدار يومين تحت شعار الإعلام من الحرية والحماية إلى التمكين والتغيير. ويشارك فيه أكثر من 750 إعلاميًا وإعلامية وناشطًا وصانع محتوى وخبيرًا، إلى جانب ممثلين عن مؤسسات دولية من مختلف أنحاء العالم.