من يتابع أخبار روسيا يدرك أن هذا البلد لم يعد مجرد لاعب على رقعة الشطرنج العالمية، بل أصبح هو الرقعة نفسها التي تدور فوقها كل الأزمات والصراعات، من الجبهة الأوكرانية إلى أروقة السياسة الدولية. وبينما يواصل فلاديمير بوتين نسج خيوط استراتيجيته ببرود روسي معتاد، ترد واشنطن من كوكب آخر بعروض درامية لا تنتهي، تُهدّد وتتوعد وتفرض العقوبات كما لو كانت تضع تاج "أسد الغابة” على رأسها، بينما الواقع يبتسم بسخرية.
روسيا بين الحرب والسياسة: براغماتية لا تعرف المجاملة
منذ بداية الحرب في أوكرانيا، تعاملت موسكو مع الموقف بمنطق القوة الهادئة. لم تندفع، ولم تُظهر ارتباكاً، بل تحركت كمن يعرف مسبقاً إلى أين تتجه الخطوة التالية. بوتين، الذي يقف اليوم كأطول الزعماء بقاءً في السلطة الروسية الحديثة، يدير الملف الأوكراني بعقلية رجل أمن لا يثق بالصدف.
روسيا، رغم كل الضغوط، أعادت ترتيب أولوياتها الداخلية:
تعزيز الاقتصاد عبر بدائل محلية بعد انسحاب الشركات الغربية.
فتح أسواق جديدة في آسيا وأفريقيا.
الاعتماد على "الروبل” في تجارة الطاقة.
النتيجة؟ الاقتصاد الروسي لم ينهَر كما توقعت واشنطن، بل تكيف وازدهر جزئياً بفضل هذا التحول الإجباري نحو الشرق.
أمريكا... من التهديد بالعقوبات إلى حبّ الدراما السياسية
أما من الجهة الأخرى من كوكب الأرض، فتواصل الولايات المتحدة أداء دورها المفضل في المسرحية العالمية. تهدد بالعقوبات وكأنها ترفع عصا سحرية قادرة على قلب الأنظمة بين ليلة وضحاها. ومع كل خطوة روسية محسوبة، تأتي واشنطن ببيان غاضب أو مؤتمر صحفي يحمل عنوان "العقوبات الجديدة” — وكأنها تمنح نفسها دور البطولة في فيلم طويل لا أحد يريد مشاهدته بعد الآن.
لكن المثير أن هذه العقوبات تحولت من أداة ضغط إلى وسيلة لتقوية التحالفات غير الغربية. فبينما تغلق أمريكا الأبواب، تفتح روسيا نوافذ جديدة نحو الصين، والهند، وإيران، ودول أفريقية تبحث عن بديل عن الهيمنة الغربية.
بوتين: رجل المراحل الصعبة
فلاديمير بوتين ليس زعيماً عابراً في تاريخ روسيا، بل تجسيد لعقيدتها السياسية القائمة على "الاستقلال بأي ثمن”. في الداخل، يوازن بين السيطرة الحديدية والتنمية الاقتصادية، وفي الخارج يفاوض الغرب بلغة "الواقع” لا "الرغبات”.
ما يميّزه أنه لا يتحدث كثيراً، لكنه عندما يفعل، تُستشعر الرسالة من نبرة صوته قبل كلماته. في خطاباته الأخيرة، ركّز على فكرة "النظام العالمي المتعدد الأقطاب”، وهو ما يراه كثير من المراقبين تحدياً مباشراً للهيمنة الأمريكية.
وتحت قيادته، تحوّلت موسكو من دولة كانت تُحسب على هامش الاقتصاد العالمي إلى محور رئيسي في معادلات الطاقة والغذاء، خصوصاً بعد أن أصبحت العقوبات سيفاً ذا حدين يعاقب الغرب نفسه به عبر ارتفاع أسعار الطاقة والتضخم.
الغرب في مأزق... وروسيا في وضع الهجوم الهادئ
مع مرور الوقت، بدأت أوروبا تدرك أن الانفصال الاقتصادي عن روسيا أصعب مما تصوّرت. فغاز سيبيريا لا يُعوّض بسهولة، والتبادل التجاري الذي كان يُقدّر بمئات المليارات لا يمكن استبداله بصفقات عاطفية مع شركاء جدد.
لهذا السبب، تحاول بعض الدول الأوروبية إعادة قنوات التواصل بشكل غير مباشر مع موسكو، خصوصاً في الملفات الأمنية والطاقوية.
في المقابل، تتعامل روسيا مع كل هذه التحولات ببراغماتية محسوبة. لا تندفع، لكنها لا تتراجع. تستثمر الوقت والعقوبات لتقوية صناعاتها الوطنية، وتستخدمها كدافع لإحياء الروح الإنتاجية التي كادت تختفي في زمن الانفتاح الغربي.
لعبة النفوذ الجديدة: روسيا خارج الصندوق
اللافت أن روسيا لم تعد تكتفي بالدفاع عن نفسها في مواجهة الغرب، بل بدأت تلعب لعبة النفوذ بذكاء في مناطق أخرى. في الشرق الأوسط، نجحت في ترسيخ وجودها العسكري والسياسي، وفي أفريقيا باتت حاضرة عبر التعاون الأمني والاقتصادي.
وفي آسيا، تُعمّق شراكاتها مع الصين والهند لتشكيل توازن جديد في مواجهة واشنطن. هذه التحركات ليست صدفة، بل جزء من استراتيجية "العالم بلا مركز واحد”، التي تؤمن بها موسكو وتسعى لفرضها كواقع جديد.
في الختام
روسيا اليوم ليست كما كانت قبل الحرب. إنها دولة أعادت تعريف ذاتها وسط العاصفة، وتحولت من هدف للعقوبات إلى فاعل يُغيّر قواعد اللعبة. وبينما تواصل واشنطن تقديم عروضها الدرامية حول "الديمقراطية والعقوبات”، يكتفي بوتين بالابتسام وهو يرى كيف أن "الأسد الأمريكي” يرتدي تاجه الذهبي في المرآة، بينما الغابة من حوله لم تعد تصفق له.
فالعالم يتبدّل، وموسكو تعرف جيداً كيف تحافظ على مقعدها في الصف الأول من مسرح التاريخ — بهدوء، وبخطوات محسوبة، وبنبرة روسية لا تخطئها الأذن.