رئيس التحرير : خالد خطار
آخر الأخبار

الانتقال العادل إلى الاقتصاد الرقمي: كيف نواجه انخفاض الإنتاجية دون صدمة اجتماعية؟

الانتقال العادل إلى الاقتصاد الرقمي: كيف نواجه انخفاض الإنتاجية دون صدمة اجتماعية؟
جوهرة العرب 

م. سعيد بهاء المصري
نشر في: الأحد 14 كانون الأول / ديسمبر 2025. 12:00 صباحاً
آخر تعديل: الأحد 14 كانون الأول / ديسمبر 2025. 12:00 صباحاً
انخفاض الإنتاجية في الأردن حقيقة لا يمكن تجاهلها.
كشف منتدى الاستراتيجيات الأردني في تقريره الأخير حول مستويات الإنتاجية في الأردن (كانون الأول 2025) أن الأردن يعيش مفارقة مقلقة: رغم أن الأردن يُصنَّف ضمن أعلى دول العالم في عدد ساعات العمل الأسبوعية (المرتبة الخامسة عالميًا)، إلا أن إنتاجية العمل لكل ساعة تُعد من الأدنى عالميًا (المرتبة 106 من أصل 184 دولة).
كما أشار التقرير إلى أن معدل النمو السنوي لإنتاجية العمل في الأردن كان سالبًا خلال العقدين الماضيين، إذ تراجعت الإنتاجية من 19.8 دولار/ساعة عام 2005 إلى 17.9 دولار/ساعة عام 2025، متأخرة عن المتوسط العربي والعالمي. وبحسب بيانات المنتدى، فإن أكبر القطاعات من حيث عدد العاملين هي الأقل إنتاجية:
* القطاع الحكومي: إنتاجية 3.6 دينار/ساعة
* تجارة الجملة والتجزئة: إنتاجية 7.6 دينار/ساعة
في المقابل، تُسجّل أعلى مستويات الإنتاجية في:
* المناجم والمحاجر: 46.1 دينار/ساعة
* الكهرباء والمياه: 37.8 دينار/ساعة
هذه الحقائق تثبت شيئًا واضحًا:
الاقتصاد الأردني يعمل كثيرًا لكنه لا ينتج بما يكفي.
ما وراء الأرقام: اختلال هيكلي لا إداري فقط
يشير تقرير منتدى الاستراتيجيات إلى أن تكدس العاملين داخل القطاعات منخفضة القيمة المضافة، إضافة إلى ضعف التكنولوجيا، ونُظم التحفيز، والكفاءة التشغيلية، كلها عوامل تُساهم في تآكل الإنتاجية.
لكن خلف هذه الظواهر تكمن إشكالية أعمق:
أن طبيعة العمل في الأردن لا تزال ورقية، تشغيلية، تقليدية، وبعيدة عن نظم الإنتاج الرقمي والإدراكي التي تغيّر قواعد اللعبة عالميًا.
أي أننا لا نعاني فقط من طريقة تنظيم العمل، بل من نموذج اقتصادي غير جاهز للثورة الرقمية التي تُعيد تعريف العمل والإنتاج والدخل والقيمة.
الأتمتة ليست خصمًا بل نتيجة حتمية من الخارج
في عالم متسارع نحو اقتصاد معرفي، فإن السلع والخدمات ستُنتَج باستخدام:
* الذكاء الاصطناعي
* الأتمتة التشغيلية
* الحوسبة السحابية
* منصات إدارة العمل الرقمية
* روبوتات التحليل والتشغيل والخدمة
وهذا يخلق واقعًا واضحًا:
إذا لم يدخل الأردن في هذه المنظومة، فستفعلها الأسواق المنافسة نيابة عنه.
وبالتالي فإن البطالة ليست نتيجة الأتمتة، بل نتيجة الغياب عن الأتمتة.
إن عدم الانتقال اليوم يعني أن:
* تكلفة الإنتاج ستبقى أعلى،
* الجودة أقل،
* الوقت أطول،
* والأسواق الإقليمية والدولية ستتفوق علينا.
ومع مرور الوقت، ستخرج الوظائف التقليدية من المنافسة تلقائيًا من دون حماية اجتماعية.
التحدي الإنساني الأكبر: ماذا نفعل بعشرات الآلاف من العاملين التقليديين؟
يخشى البعض أن الأتمتة ستقود إلى «استغناء جماعي عن العاملين».
لكن الحقيقة أكثر إنسانية ودقة:
الاستغناء سيحدث إن لم نُخطط له، وليس إن خططنا له!
فلو بقي الاقتصاد على وضعه الحالي، ستتآكل الوظائف التقليدية تدريجيًا بسبب المنافسة لا بسبب القرار الحكومي.
الفرق الوحيد بين:
* أتمتة مُدارة بشكل عادل
* وأتمتة فوضوية مفروضة من السوق
هو الفرق بين:
* انتقال تدريجي بكرامة،
* وبين بطالة صادمة بدون حماية.
كيف نبني نظام انتقال عادل؟
أربع ركائز إنسانية يمكن أن تُقدّم للأردن انتقالًا حضاريًا، بدل صدمة اجتماعية مفاجئة:
إدارة المخزون الوظيفي بدل الاستغناء
الحل ليس طرد الموظفين، بل إدارة الوظائف تدريجيًا:
* وقف التعيينات الجديدة في الوظائف الروتينية
* تقاعد بلا استبدال في مواقع غير منتجة
* إعادة توزيع الموظفين داخل الدولة نحو:
      - الرعاية الاجتماعية
     - التفتيش البيئي
      - الإرشاد الزراعي
      - دعم التعليم
      - خدمات المجتمع والتنمية المحلية هنا يتحول الخطاب من:
«هذه الوظيفة بلا مستقبل»إلى «هذا الموظف ينتقل إلى وظيفة اجتماعية منتجة وإنسانية.»
اقتصاد عمل انتقالي بدل الإقصاء من لا ينتقل فورًا إلى الاقتصاد الرقمي يمكن أن يعمل في:
* برامج عمل عام
* التشجير واستصلاح الأراضي
* إدارة المياه
* الخدمات المجتمعية والصحية والتعليمية
* السياحة الريفية
*مشاريع تعاونية صغيرة
ليس كإعالة، بل كدور اجتماعي منتج، بدخل كريم، وبالتزام تدريبي بسيط.
تقليص ساعات العمل بدل تقليص البشر الأتمتة تزيد الإنتاجية.
لكن ليس من الضروري ترجمتها إلى تقليص رأس المال البشري، بل يمكن ترجمتها إلى:
* تقليل ساعات العمل
* رفع الأجر مقابل ساعة منتجة
* مشاركة العمل بين عدد أكبر من الناس
أي أننا نستبدل:
«وظائف مرهقة بلا قيمة»بـ
«وظائف إنسانية بساعات أقل، وجودة أعلى، ودخل كريم.»
صندوق للانتقال العادل ممول من مكاسب التحول نفسه
حتى لا تتحمل الخزينة التكلفة وحدها، يمكن أن يُنشأ صندوق وطني للانتقال العادل يُموّل من:
* جزء من وفورات التحول الرقمي في القطاع العام
* شراكات مع مؤسسات التنمية الدولية
* تأمين بطالة مرحلي ومشروط بالتدريب
* برامج إدماج في عمل عام مؤقت
بهذا: لا يُطلب تمويل مستمر من الخزينة، بل يُعاد توزيع مكاسب الأتمتة نفسها.
مآلات شبكة الأمان الاجتماعي في التحول الرقمي مع توسّع الأتمتة، ستتحوّل شبكة الأمان الاجتماعي من مفهوم «دفع نقدي عند فقدان الدخل» إلى مفهوم «ضمان انتقال فعلي للإنسان بين اقتصادين»، بحيث تشمل:
* تأمين دخل مؤقت للمتحولين
* تدريب مؤسسي مستمر لرفع المهارات
* برامج تشغيل اجتماعي أو بيئي أو خدمي
* تقاعد تدريجي أو جزئي في الوظائف التقليدية
* زيادة قدرة الشبكة على امتصاص التحول دون صدمة
* ضمان الكرامة الإنسانية ضمن كل مرحلة انتقالية
وبهذا تتحول شبكة الأمان الاجتماعي من برنامج دعم سلبي إلى أداة استراتيجية للإنتاجية وعدالة التحول، بدل أن تبقى مجرد آلية مالية قصيرة المدى.
الرسالة للصحافة والحكومة
ليس هناك أخطر من أن يبقى الاقتصاد الأردني خارج الثورة الرقمية تحت ذريعة حماية الوظائف التقليدية.
لأن هذه الوظائف ستتآكل على أي حال تحت ضغط المنافسة، من دون أي زيادة في الإنتاجية تمكّن الأردن من حماية الناس أو دعمهم.
وبالتالي، فإن الخيار ليس بين:
* الأتمتة أو عدمها بل بين:
* أتمتة عادلة تحمي الإنسان
* أو أتمتة فوضوية يفرضها السوق
ومسؤولية الحكومة هي:
أن تُدخل الذكاء الاصطناعي والأتمتة، ولكن ضمن نظام حماية اجتماعية انتقالي، لا أن تترك المجتمع يواجه موجة البطالة بلا تخطيط.
ان تقرير منتدى الاستراتيجيات الأردني كشف الحقيقة الرقمية:
الإنتاجية منخفضة، وساعات العمل طويلة، والاقتصاد بحاجة إلى نموذج جديد.
والانتقال الرقمي والإدراكي هو فرصة للرفع الشامل للإنتاجية، لكنه يحتاج إلى:
* هندسة اجتماعية عادلة
* حماية للكرامة البشرية
* توزيع للعمل وتدريب وانتقال سلس
* مأسسة صندوق للانتقال العادل
* توسيع مآلات شبكة الأمان الاجتماعي ضمن التحول التقني الإنساني
بهذا تصبح التكنولوجيا: شريكًا للإنسان لا بديلًا عنه.