بطباعة فاخرة وإخراج متقن صدر عن "دار جامعة حمد بن خليفة للنشر” كتاب جديد للأطفال هو "قنديل ألمى”، من تأليف الكاتبة اللبنانية بسمة الخطيب. وهذا الكتاب ليس جديدا فقط لأنه صدر حديثا بل هو جديد أيضاً بمعنى أنه مختلف، فهو من ذلك النوع المثير للمخيلة والذهن، الذي يتوجه للأطفال والبالغين معا والذي يجوز القول انه يخاطب بلغة واحدة، رمزية ومكثفة، جمهوراً متعددا متنوعاً.
قصة الكتاب: يجب ان أذكر أولا أن كلمات الكتاب تقارب العشرة سطور اذا ما جمعناها معا، ولكنها موزعة على صفحات 32 من الكتاب يتخللها صمت معبّر تلعب الصورة والإخراج الفني فيه دورا بليغا. فاذا عرفنا أن المؤلفة، الخطيب، هي كاتبة سيناريو، فهمنا كيف انها كتبت كتابها هذا في "الستوري بورد” نصّاً وشرحاً للرسوم، وأنها رسمته في خيالها مشهداً بمشهد قبل ان ينفذه الرسام اللبناني الفرنسي المبدع بلال بصل، والمتابع لهذا الرسام سيعرف انه يخطو مع "قنديل ألمى” خطوة كبيرة في مشوار أدب الطفل العربي أو بالتحديد الرسم لكتب الأطفال، فعوضا عن الرسم المتقن والدراسة العميقة للشخصيات والخلفيات والظلال حتى، اعتنى بصل بزاوية التقاط الرسمة، انطلاقا من المضمون، فأتت اللقطات متنوعة الزوايا وذات ابعاد غنية.
نعود لقصة الكتاب، وهو يحكي كما قلت حكاية طويلة في كلمات قليلة. تخرج ألمى، وهي طفلة فقيرة، يبدو انها تعيش على الحدود، على الهامش الإنساني تحديداً، وتمثل الاطفال المضطرين للعمل لتأمين قوت أهلهم، تخرج من مصنع للغزل والنسيج مع أطفال آخرين، ولكنها تتوغل في الغابة وحدها، بينما يتجه الاطفال في طريق أخرى، نحو المدينة على الأرجح. ويصدف ان يكون ذاك المساء مظلماً وبارداً، تتلبد الغيوم في السماء فلا يلوح للطفلة أي نور يهديها. يقول النص: قد تكون الطريق أحيانا أصعب من أي يوم مضى. تمضي الطفلة في طريقها، وتلتقي بسراج ليل بردان يرتجف، وحيد مثلها، تحتضنه فيدفأ ويشع بقوة، يساعدها في التقدم بضعة خطوات، ولكن سرعان ما تهب نسائم قوية تطيّر سراج الليل فتحزن ألمى ولكن النسمات بالمقابل تباعد بين الغيوم فتظهر نجمة تنير طريقها. هو أمل يختفي وأمل يولد. ولكن نجمة واحدة لا تهزم ذاك الليل كما تكتب الخطيب، بل التقدم هو ما يهزم الظلمة. تجد ألمى بقايا موقد ووتد خيمة وخرقة قماش فتصنع مشعلا من مخلفات بسيطة، لكنه مشعل يساعدها في التقدم أكثر في مشوارها وفي مساعدة سنجاب ضعيف يلاحقه ضبعان شريران. تلوح ألمى بالمشعل للضبعين فيهربان وتنقذ بذلك السنجاب الضعيف. وحين تصل إلى الجسر الذي يجب ان تعبره فوق نهر جارف، تجد الجسر محطما وهنا يأتي السنجاب بالمساعدة، إذ يحمل الأغصان لترميم الفجوة في الجسر. تعبر الطفلة ولكنها تصل إلى طريق مسدود. نحن هنا في ذروة الحكاية: انطفأ المشعل، الظلام حالك والوقت متأخر والتعب تمكن من الطفلة. تركع ألمى وقبل ان تستسلم لليأس، تتأمل مشوارها وتتذكر ما مر بها، يقول النص هنا بأن أصعب لحظات حياتنا يجب ان تكون فرصة لنتأمل ونصنع الأمل بأنفسنا. تتذكر ألمى طريقها المتعب والمظلم وما تخلله من نقاط نور فتلمع في فضائها تباعاً، وبحركة رمزية خيالية ترسم خطوطاً بين هذه النقاط المنيرة لتصنع قنديلاً. تكتمل هنا اللعبة الرمزية التي خاض غمارها الرسام والكاتبة، ويتحول القنديل الذي يرمز للأمل وتحدي الصعاب والإرادة الصلبة والايمان بالحب والتعاطف بين الكائنات إلى قنديل حقيقي تحمله المى وتصل به الى بيتها، حيث تنتظرها أمها واخوتها الصغار. في تفصيل بسيط في زاوية الغرفة الفقيرة نجد جورب صوف غير مكتمل، يبدو ان الأم كانت تحيكه وان المى جلبت من المصنع ضمن أجرة يومها بقية الصوف لاكماله. لقد كانت رحلة تستحق العناء، رحلة في انتظار الكثير من أطفال العالم، كما تقول الخطيب في اهداء الكتاب. وهؤلاء الأطفال نراهم من نافذة كوخ المى يحملون قناديلهم بدورهم، ويمضون في رحلتهم في الحياة.
بلغة شفافة ورسوم بديعة يعرض هذا الكتاب رحلة الحياة التي تنتظر الأطفال، حتى لو لم يكونوا شديدي الفقر، الحياة ليست نزهة بل فيها المصاعب والحواجز كما فيها الاصدقاء والاعداء، أهل الخير واهل الشر… لن تكون مفروشة كلها بالورد ولا بالشوك، ولكنها ستكون مزيجاً من الاثنين. وبهذا الكتاب يدخل أدب الأطفال العربي دائرة الكتب العالمية التي تخاطب الطفل بناء على تقدير كبير لذكائه وفطرته وقدراته على الاكتساب، وليس باعتباره كائناً ناقصاً ومتلقياً سلبياً يحتاج ان تفسر له كلمة كلمة، فكتب الأطفال العالمية عرفت تقديم المعاني الإنسانية العميقة منذ زمن بعيد ولكن العرب كعادتهم تأخروا في اللحاق بهذه المدرسة الأدبية المهمة، ورغم مشوارها الصعب أتت "المى” أخيراً ومعها هذا القنديل الذي أنصح كل أسرة ومدرسة ان تقتنيه في مكتبتها.