أيتها الشعوب المنغمسة في ملذات الحياة، وتائهةَ وسط موج اختلط فيه الحق والباطل فلم يدرك البعض منكم الحق وسبح وراء موجة الباطل فتاه، اعتراكم سحر ما وصلت إليه الحضارة من بنيان، من عمران، من عجائب ما صنع الإنسان، من فرط خياله وجبروته الذي قلب الطبيعة إلى شيء مختلف عما ألفته من نقاء وصفاء، وعلى نياتها أعطتكم وعلى نياتكم شوهتم جمالها وألبستموها ثوب عيرةَ تخجل من استعراضه لأنها ما ألفت إلا جمالها الطبيعي النقي.
خرج إليكم كائن صغير وما هو بكائن لا تدرون من أي ثغر هاجمكم، وأنتم لاهون في صنع تراسانات أسلحة ينوء البحر والبر بحملها، لتقتلوا بعضكم، وليشرد بعضكم بعضا، وتصنعون الطعام وتدسون السم فيه، وتناسيتم كيف تصنعون له الدواء، بعد أن حل بكم الوباء، صنعتم جبالاَ شاهقة هشةَ تكاد تكون من ورق لا تحتمل ريح غدر البعض منكم بأخيه الإنسان.
أقعدكم هذا الكائن في منازلكم، ونادتكم الأرض بصوت مخنوق، ورئتها امتلأت بغبار ومخلفات صنعتموها والقيتموها في باطنها وعلى برها وبحرها، فصرخت فيكم: ألا خففتم عن ظهري الحمل الكبير؟ فصمت الغدر، وتوقفت الأيدي التي تدس السم، ودخل الزناة إلى بيوتهم وأغلقوها، وأغلقت في وجه النساك المعابد، واكتفت برفع الأذان المساجد، وتوقف الهرج والمرج، وساد الصمت في كل بقاع الأرض، ولم يسمع إلا صوتاَ خافتاَ منها، الآن وقد خف الحمل عن صدري، ليت بنو البشر يستمرون في خلوتهم هذه، ويعيدون ترتيب أوراقهم، ويفكرون كيف يعيدوا لي وجهي الجميل، وطببعتي النقية، وخلقتي البهية، فقد سئمت الثوب الذي ألبسوني إياه، فأنا لم أخلق لتعلوا فوق سطحي الخيانة والرذيلة والزنا، والمفاسد، ولا النزاعات وطبول الحرب والمكائد، بل خلقت ليعيش من علي بسلام وتسامح، حتى أسامح ولا أغضب غضبة انتفض منها فألفظ كل من علي ولست أبالي، فأنا مأمورة، وأنتم شركاء في الماء والكلأ والنار، فلماذا يعتدي بعضكم على الآخر، وكيف لا تعيشون بسلام وتسامح، وتعيدون صناعة حضارةَ سنامها الإنسانية المجردة من كل حقد وضغائن، وتزرعون الأرض بالمحبة والخير، لتحصدون المحبة، فلكل منكم أجل مسمى فليعيشه كما تقتضي الإنسانية.