آخر الأخبار

جمال الطاهات يكتب : الشكوك وعدم اليقين وسياسات احتواء الوباء

جمال الطاهات يكتب : الشكوك وعدم اليقين وسياسات احتواء الوباء
جوهرة العرب
 


حملات التشكيك المتصاعدة، في مواجهة الإجراءات الرامية لاحتواء الوباء، ظاهرة عالمية وليست ظاهرة محلية. وهي ليست مجرد موقف غير عقلاني من حقيقة عيانية. بل استجابة طبيعية للتعثر والارتباك، في تطوير فهم (أو مشروع عالمي) يتجاوز هدف الاحتواء الصحي للوباء. إذ أن متكأ التشكيك، حقيقة أن الامور لن تعود إلى ما كانت عليه قبل الوباء. فمعظم خطاب التشكيك يربط بين الوباء وبين نتائجه، وليس حقيقته العيانية الراهنة.  

الأسئلة المفتوحة المتعلقة بالمستقبل الذي ستمنحه إجراءات مواجهة الوباء بعض ملامحه، هو مفتاح الحوار العالمي حول «حقيقة الوباء» وآثاره، وحول ما يجب أن يُعمل لاحتوائه. إجراءات احتواء الموجة الثانية للوباء تتضمن تطوير المنظومة الطبية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية، لبناء القدرات المستدامة على احتواء الأوبئة –بشكل عام-، وليس هذا الوباء فقط. وهذا هو ما يستثير مخيلة المشككين، وريبتهم. إذ أن ملامح المنظومة الجديدة ما زالت غائبة ومعومة، وفي سياق الاحتمالات والخيارات. 

العوامل الموضوعية التي تعزز الشكوك وتثيرها، ترتكز على بعدين: الأول حتمية التغيير، الذي يثير، ويتزامن مع ممانعة ناشئة عن القصور الذاتي في مواجهة التغييرات، أياً كانت هذه التغييرات. والثاني عدم وضوح التغييرات، وضبابيتها. وهذا من شأنه أن يثير المخاوف ويبرر ظهور فرضيات متعددة، تعتمد على المتخيل أكثر مما تعتمد على الوقائع. فمع غياب ملامح المستقبل، الذي يعلم الجميع أنه سيكون مختلفاً عن الواقع الحالي، والخوف والتوجس من هذا الغموض، تتحفز المخيلة، لرسم ملامح ملتبسة للمستقبل.    

وتبدأ محفزات التشكيك، وخطورته وأهميته، من حقيقة اقتصادية تجلت في الأشهر القليلة الماضية، وهي أثر عدم اليقين على فعالية السياسات الاقتصادية لاحتواء الوباء. إذ أن الازمة الاقتصادية المتعلقة بانتشار الاوبئة، أو بالمخاوف من انتشارها، لا تنطبق عليها قواعد الاستجابة للازمات الاقتصادية الدورية. فالطلب لا يمكن تحفيزه بتوفير النقود لشرائح الدخل المنخفض والمتوسط. إذ أن فايروس «عدم اليقين» يدفع هذه الشرائح للادخار، وليس الاستهلاك. كما يدفع المستثمرين، إلى التمسك بالنقود والاحجام عن الاستثمار. وهذا يدعم ضرورة استرداد اليقين بالمنظومات الاقتصادية، او تطوير ادوات سياسة اقتصادية جديدة، تستطيع احتواء درجة القلق الراهن في الأسواق، كشرط لتعافيها. 

تعمق عدم اليقين الناتج عن الوباء، وتزامنه مع التحولات التقنية، أثار المزيد من الشكوك، ومنحها بعض الادلة التي تبررها، وحولها إلى حالة عامة تتجاوز تعقيدات حسابات المخاطر. حيث وصفها منذ القرن الثامن عشر، العالم الفيزيائي والاقتصادي (دانيال بيرنوللي): «بالرغم من أن احتماليات الربح والخسارة قابلة للحساب، ويمكن السيطرة عليها، إلا أن الاستجابة لهذه المخاطر، لا تحكمها فقط حسابات الاحتمالات». وللتوضيح ربط بيرنوللي تأثير عدم اليقين، بالقيمة الحدية للنقود، وأنه يرفع قيمة كل دينار يضاف إلى مجموع مدخراتنا. وأوضح أن فكرة احتمالية الخسارة، أهم من احتمالية عدم الربح. 

ضرورة السيطرة على فايروس «عدم اليقين»، لا تقل أهمية عن السيطرة على فايروس كوفيد نفسه. وتحرير السوق منه متطلب أساسي لاحتواء الأثر الاقتصادي للوباء. وأي سياسة اقتصادية لا تحرر السوق من كلا الفايروسين، ستسطدم فرضياتها بوقائع ملتبسة، وستفقد أدواتها التقليدية أو المستحدثة (التي تتجاهل وجودهما معاً) الكثير من فاعليتها. إذ «بالرغم من عدم وجود مؤشرات كافية (قواعد عامة وكونية) للتعامل مع عدم اليقين، يجب عدم اهماله» على حد تعبير بيرنوللي. وهذا يعني الحاجة لتصورات، ترسم ملامح المستقبل بوضوح كافي، لاستعادة ثقة المجتمعات بالحاضر والمستقبل معاً. فلا يمكن مواجهة التشكيك إلا ببناء جسور متينة بين الحاضر والمستقبل، تستند إلى تصورات مقنعة ومحفزة.

الدستور