لا زالت عيناي لا تستسيغ صورة منسفنا العتيق العريق الذي تجذرت صورته في ذاكرتنا موضوع في كأس، منسفنا الغريق في كأس، وقد ضيقوا عليه التمدد في الإناء الدائري الذي لازم هذا الطبق طوال عمرنا، ولملموا رمزنا الكبير في إناء صغير وأصبح صرعة جديدة، بعد أن كان سيد الموائد، يقلطون عليه رجالات الوطن وأهله بكل تبجيل واحترام، وله آداب حصرية به، لسبب بسيط لأنه رمز وطبق الأردنيين المعروف عالمياً، وقصته أيضا تدل على حادثة للعزة والكرامة إبان عهد الملك مشيع، ولست هنا بصدد سرد قصة المنسف وقيمته عند الأردنيين، بل أشكو حال تاريخ وموروث أصيل ورمزيات وقيم ومعان مهددة بالتشويه والتغيير، وأشكو وَجَعًا يشق فؤادي الذي تطبع على حب الوطن أَرْضًا وَتَارِيخًا وَشَعْبًا، وجعي مما تراه عيني من تساقط لمنظومة القيم والمبادئ والأخلاق الأصيلة التي تربينا عليها، كيف كنا؟ وأين وصلنا؟ ولماذا لم نلبي متطلبات الجيل من القيم والثوابت اللازمة كي يصمد أمام أعاصير التغيير التي تقذف به في طرق معتمة جعلته اتكالي يعتمد على ما يرمي به الغرب من مخلفات لصرعات مزيفة عافها هو، ووجد أنها لا تضيف لواقعه شَيْئًا، علماََ بأن أكبر الدول تطوراََ لا زالت متمسكة بتقاليدها وعاداتها وحتى وصفات الطعام لديها، فلبسنا نحن ثوباً لا يليق بنا، واعتمدنا على مخلفاتهم كطريقة حياة، وبنفس الوقت لا زلنا منشدهين بتلك الحضارات ونرقب تطورها وازدهارها من خلال شاشة صغيرة، نفتتن بما أنجزته ونمدح صنيعها، ونحن بارحين في مكاننا لا نية لدينا لأي إنجاز فعلي على أرض الواقع، عاجزين عن العمل والتفكير والإنتاج، ونعتبر وقت العمل شيء ممل يجب الخلاص منه، وبذلك سقطت قيمة الإخلاص في العمل بشكل مدوي، وهذا منحنى خطير بات يهدد مسيرة البناء وكينونتها، وتعدى ذلك بأن الملل ووقت الفراغ جعل منا أشخاصاََ متذمرين بشكل دائم ونسيء التعامل بأدب مع كل شخص يمر أمامنا ولو كان كَبِيرًا بالسن، وتعدينا على المال العام، والشجر والحجر والجدران، وكل شيء في طريقنا، يا إلهي! كل ذلك بسبب أننا وضعنا المنسف بكأس؟ نعم من يبيع ويغير ملامح أصيلة لشيء ذو قيمة وجزء ثابت ورمز وتاريخ، يبيع ما تبقى لديه من قيم ومبادئ ويشوهها ويلبسها ثوباََ آخر، ويختاربديل مزيف، والدليل حاضرنا هش خال من أي قيمة تذكر، اللهم ثَوْبًا مُبَهْرَجًا بطانته مهترئة سميناه صرعة، فأستهانت بنا الأمم ولا زالت تسمينا دول العالم الثالث.