"جوهرة العرب" / بقلم المحامي: فراس ملكاوي
إن صياغة القوانين والتشريعات ليست مجرد عبارات وألفاظ تتسم بتناسقها وجمال مبناها، بل إن دلالات الألفاظ والعبارات تحمل على سياقها وموجباتها والغاية منها لاستظهار المقاصد والمعاني ودلالاتها، فصياغة التشريع مثل تفسيره أمر ليس بيسير إذا يتطلب الأمر دراية عالية بعلوم اللغة ودلالات الألفاظ ظاهرها ونطاق تأويلها، في ضوء أصول منهجية علميه تراعي مجمل التشريع واتساقه وتكامل النصوص مع غيرها، فلا تؤخذ بالعزلة عند قراءتها أو صياغتها.
والحقيقة أنه علم ومدارس عمرها مئات السنين سبرت أغوار نظريات قانونيه وتجارب معرفيه فمنها من تمسك بحرفية النصوص وشكلياتها، ومنها من غلّب روح النصوص وفي ذلك حديث يطول، لهذا فصياغة الأحكام القانونيه تنطوي على مخاطر جسيمة قد تنقلب نصوصاً تحكمية تُحدث دمارا في نطاقها ما لم يتوسط مشرّعها مكانة تراعي آثار ذلك التشريع وتداعياته، فكم من نظام أو تعليمات أو قانون كان سببا في شقاء المواطنين وحرمانهم من حقوقهم، بدلا من أن يكون سببا لتسهيل أمور حياتهم وتنظيمها ببساطة وييسر، فبعض تلك التشريعات زاد الحياة تعقيدا وتباعدا بين المواطن وحقوقه وإغراقه في سلسلة من النصوص الصماء وفروعها ودهاليزها تحت عنوان (هيك القانون وهيك التعليمات)!!!
يستطيع العاملون في مجال المحاكم وروادها أن يستظهروا بوضوح مكمن الضرر وبواعثه.
فمنذ سنوات وما زالت نقابة المحامين على موقفها الرافض لأية قوانين او أنظمة أو تعليمات تحول بين المواطن وحقوقه جنبا إلى جنب مع منظمات وجمعيات ونشطاء في مجال حقوق الإنسان، ولا تفوّت مناسبة أو محفلا إلا وتجدد دعواتها إلى ضرورة مراجعة التشريعات التي فرضت عقبات وشروط ورسوم لا يقوى عليها عموم المواطنين، ومنها تلك التشريعات التي ألزمت أي شخص يلجأ إلى القضاء أن يدفع رسوما باهضة قبل أن يؤذن له بِطرَق باب القضاء لتسجيل دعواه ومطالباته، حيث بلغت تلك الرسوم بحدها الأعلى (5) آلاف دينار أردني عن كل مرحلة من مراحل التقاضي، يعني بمجموع (15) ألف دينار من محكمة البداية مرورا بمحكمة الاستئناف وصولا إلى محكمة التمييز، ولم يكتفِ هذا التشريع المخالف للدستور ومبادئه عند هذا الحد، بل تعاضد مع نظام آخر فرضت أحكامه نسبة مئوية يجب على ذات المدعي أن يدفعها بالإضافة لما دفعه من رسوم يطلق عليها (بدل طوابع) والتي من اسمها توحي بأنها مبالغ زهيدة كونها (طوابع) ولكن الحقيقة أن الرسوم المتحتم عليك دفعها تحت مسمى طوابع قد تبلغ مئات الآلاف لكونها مرتبطة بشكل مضطرد، فكلما زادت قيمة سند المديونية مثل (الكمبيالة أو الشيك أو العقد) زادت قيمة تلك الطوابع التي لا سقف لها..!!!
ويحضرني موقف صادفته خلال عملي كمحامي فأذكر انه في السنة الماضيه (2019) راجعني ورثة يرغبون بتوكيلي من أجل تنفيذ كمبيالات آلت إليهم عن طريق الإرث بمواجهة شركة معروفة بملاءاتها الماليه، ولدى مراجعة التنفيذ بقصر العدل قمت بتنظيم محضر تنفيذ وطلبت احتساب الرسوم فاحتسبوا الرسوم وعلى ما اذكر انها بحدود (1300) دينار تقريبا كرسوم قضية تنفيذية بالإضافة إلى رسوم طوابع الواردات والتي بلغت (28) الف دينار، نعم (28) ألف دينار طوابع ولو زادت قيمة الكمبيالة لزادت قيمة الطوابع التي لا حد أعلى لها حسب القانون !!!.
طبعا الورثه لديهم تركة عبارة هذه الكمبيالات التي قيمتها ملايين ولكنهم لا يملكون هذه الرسوم الضخمه .. فاجتهدت وطلبت تأجيل دفع الرسوم والطوابع إلى حين التنفيذ (يعني بس نقبض بنقبض الحكومة الرسوم) إلا أنني بصراحة تفاجأت حينذاك بأن رسوم طرح سندات للتنفيذ لا تؤجل خلافا لما هو ما منصوص عليه في الأصول المدنيه ... طبعا وبالتأكيد إن ورثة الملايين الورقية لا يملكون منها شيء، وعلمت مؤخرا أنهم عرضوا حقوقهم للبيع بنصف الثمن لأنهم لا يملكون ثمن اللجوء إلى التقاضي.
هكذا أحكام تعسفية أطلقوا عليها ظلما اسم تشريعات!!! كانت وما زالت سببا بازدهار الفساد وظهور مافيات شراء الحقوق وتنامي تجارة النفوذ ... وفي ظلها نمت شوكة الاستغلال وتعاظمت ثروات المتكسبين والمتنفعين والذين وجدا ضالتهم في تشريعات سحقت بين نصوصها طبقة الفقراء والمعسرين فأفرغت مجتمعنا من التراحم وحكمت على الغالبية العظمى بمزيد من التهميش والتغريب وضربت بمبادئ دستورية ومواثيق دولية بعرض الحائط مما أدى بالنتيجة إلى التطرف والسلبيه وانتشار ظواهر اجتماعيه مرضية وظهور جرائم غريبة وصادمة نتيجة لشعور أصحاب الحقوق الماليه باليأس وانسداد الطرق نحو المطالبة بحقوقهم.
إن صياغة القوانين والأنظمة تتطلب بالضرورة سعة اضطلاع على العلوم القانونية والاجتماعيه والوقوف على الأهداف الأساسية من التشريع و الحذر من مغبة المساس بحقوق المواطنين وحرياتهم وحقوقهم الأساسية وفهم عميق للنظام القانوني العام في الدولة فضلا عن مراعاة أسباب وموجبات التشريع واستشراف الأثر الإجتماعي على أحكامه ومقدار ملائمته لحاجات المجتمع وطبيعته . (م. م.)