اختارت الكاتبة عنوانها "ذريعة" ليكون مفتاحا وبوابة للنص ولكي تدخلنا بتساؤلات عدة: يا ترى ما الذي تم اتخاذه ذريعة ووسيلة وما الهدف الذي تبغي الوصول إليه فكلمة ذَريعة: اسم ويدل في عدة معاني نذكر منها :
الذَّريعَةُ : حَلْقَة يتعلَّم عليها الرامي. والذَّريعَةُ: ما يستتِر به القصائد. والذَّريعَةُ :الوسيلة والسّبب إلى الشيء. وذريعة إلى: حجَة، تَعِلَّة. وسدُّ الذَّرائع: (الفقه) قفل باب ما يُتعلَّل به، أو قطع الطرق المؤدية إلى الإثم والمعصية..
ومن خلال سرد هذه المعاني التي تدل على أمر اتخذ وسيلة لبيان أو تفسير شيء أو الوصول لأمر آخر، وكما هو حال الصياد أيضا فيما يحاول الوصول إليه واصطياده وقتما تسمح الفرصة له بذل.. فالعنوان مشوق وناجح في إثارة الدافعية والتشويق لما بعده..
_ نظرة في متن النص:
بدأت الكاتبة نصها بالأحداث الماضية لتدل على واقعية ما تأتي به من أحداث وأنها تمت وانتهت وليست محتملة الحدوث وبدأت بأول حدث وهو الفعل الماضي امتشقوا والذي له دلالت سلبية فيما تظهره معانيه فامْتشَقَ الشيءَ من يد غيره: اختلسه واختطفه.. وامْتشَقَ ما في الضَّرْع: استوفاه حَلْباً.. واِمْتَشَقَ الفَارِسُ سَيْفَهُ : اِسْتَلَّهُ مِنْ غِمْدِهِ، اِنْتَزَعَهُ، أخْرَجَهُ، وكلها تدل على انزعاج الكاتبة من هذا الحدث والذي يدل على حالة توتر وغضب من شيء سلب منها من غير إرادتها بالاختلاس وهذا الفعل جماعي وليس فردي ليدل على أنّه مكرر ولإكثر من مرة ولكن ما الذي تم اختلاسه من الكاتبة إنها روحها والروح وجودها يدل على حياة مالكها وبسلبها وكأنها سلبت منها الحياة كلها وهنا حجم كبير من الإيذاء الذي عبرت عنه باختلاس الروح..
ثم لتتابع وتقول تعذرت بين الأنفس؛ والتعذر التعسر والامتناع وهنا تشير إلى الإباء الذي تتمتع به في نفسها وروحها الذي منعها دون غيرها من الأنفس من الانسياق وراء
رغبتاتهم ومحاولاتهم وهنا التميّز عمن سواها وهنا الثقة أيضا بما تفعل والثبات عند موقفها..
ثمّ لتأتي لنا بجملة رد الانفعال لخيبتهم وتخبرنا أنهم بدؤوا بالمواجهة لها بتقطيع رحمها وفي هذا التعبير استخدام مجازي لحالة من الشتات والضياع لمن تستكين لهم ويمثلون لها الأهل وذوي القربى، والأرحام موضع الولادة أيضا وهنا تشير أيضا لقطع الفرع كما كان قطع الأصل ومحاولة منعها عمن وعما تحب...
ثم لتبين لعادة ذميمة في المجتمع وهي الغيبة باستخدام تعبير مجازي آخر سبقها إليه القرآن الكريم في قوله تعالى: "أيحبُّ أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه" ولكنها استطاعت التعبير عنه بلغتها عندما استخدمت لفظ الفعل "يلوكون" بمعنى: "يمضغون" حيث قالت: "بَعِدَ أَن أَخًذوا يَلوكون لَحْمي" وهذا سبب في تقطيع الرحم الذي ذكرته بأن بدؤوا باستغابتها بل وتضيف بأن الحديث عنها كان من أهل القرباء للغرباء بقولها:" وَيًضَعونَه في أفْواهِ الغُرًباءِ"
وهنا تظهر عند الكاتبة حالة من الانزعاج والحسرة والحزن والعتاب لأهل القربى وأيضا الدهشة والتعجب من صنيعهم وفعلتهم تلك..
صاغ الكلام:
ثم لتتابع الكاتبة وصفها بهذه الحالة التي حلت بها من المقربين حيث تقول:" كُلَّما اِسْتَصاغوا التَّشَدٌّق بدميً" مستخدمة لأداة الشرط التي تبين الحال ثم لتجعل فعل الشرط "اِسْتَصاغوا" يدلُّ على كذبهم وزيفهم فمعنى استصاغ في المعجم : "ألَّفه، رتَّبه وهيَّأه ''صاغ مقالاً عن الحادث- صاغ كذبًا وزورًا- بدؤوا صياغَة عناصر الاتّفاق'' فاتفقت كل المعاني بالإشارة لزيف الكلام كما نرى وهنا إشارة واضحة من الكاتبة في الافتراء عليها من شخوص القصة من ذوي القربى وخاصة باستخدامها للمصدر التشدق" كمفعول به لذاك الصنيع وبالرجوع للمعجم في معنى التشدق:" يَتَشَدَّقُ بِالكَلاَمِ: يَتَكَلَّمُ دُونَ احْتِرَازٍ، ويَتَشَدَّقُ مِنْ وَرَاءِ ظَهْرِهِ : يَسْتَهْزِئُ بِهِ، يَلْوِي شِدْقَهُ سُخْرِيَةً" إشارة من الكاتبة في محاولة سخريتهم والاستهزاء بها من قبلهم دون أن يردعهم الأدب ولا حتى صلة القربى وذلك واضح باستخدامها لفظة؛ : " بدمي" وهذا ما يمكن أن يكون مبعثه الغيرة او الحقدُ والحسد والبغضاء من بطلة القصة وهي الكاتبة نفسها كما يظهر من استخدامها لضمير المتكلم..
ثم لتفاجئنا الكاتبة في قفلة النص بعدما كنا نشعر بحالة من ضعفها وبؤسها وانزعاجها من أفعالهم وأنهم قدروا عليها ونالوا منها وثنوها عن تقدمها ولكن الأمر في جواب الشرط جاء مغايرا بقولها: "اِسْتَعْصى عَلَيهِم مَضْغُ بَكارَتي" وفي هذا الجواب استعصى دليل على قوتها وفشلهم في اغتصاب شخصيتها والنيل منها ففي هذه العبارة دليل على عفتها وبقائها محافظة على بكارة الشخصية لا بكارة الرحم رغم كل محاولات الشخصية وكأنها تريد بالقفلة إخبارنا بما قاله أبو الحسن الجرجاني:
وَمَا زُلْتُ مُنْحَازًا بِعَرْضِي جَانِبًا
مِنَ الذُّلِّ أَعْتَدِ الصِّيَانَةَ مَغْنَمًا
ومن المرجح بأن تكون البطلة ليست الكاتبة نفسها ولكنها عنت بها وطنها الذي هو فلسطين وأهل القربى هم أشقاؤها العرب والمتتبع لأحداث القصة يجدُ براعة الكاتبة في استخدام المجاز والرمزية العالية وفصاحة الألفاظ وقوة الصور والأخيلة رغم قصر العبارات واختصار السرد فيما لا يخل بالمبنى أو يقطع المعنى، وهذا حال القصة القصيرة جدا ومميزاتها التي أتقنتها الكاتبة بكل براعة..