جوهرة العرب - رنا حداد / مدير دائرة المنوعات والفن "ملحق دروب" - جريدة الدستور
واعتذر بداية من روح الكاتب الراحل يوسف السباعي، صاحب رواية «ارض النفاق» الصادرة في عام 1949،على تمادي في طرح عنوان جديد لروايته، مواكبة للعصر.
فهذه الرواية التي تعد ضمن الأعمال الأدبية الاجتماعية، اجمل ما يشير اليوم الى المشاكل الاجتماعية التي تعاني منها مجتمعاتنا بلا استثناء، فكما قال السباعي في روايته « إن الإنسان.. هو الإنسان.. غشاش.. مخادع.. كذاب منافق.. في كل أمة.. في كل جيل»، ولكنه، اي السباعي، رحمه الله، لم يشهد عصر التكنولوجيا وسرعة اكتشاف الامراض الاجتماعية وتفشيها وظهورها بشكل واضح، لكنت اجزم انه قد ادخلها في الرواية واسماها اسما مشابها للعنوان اعلاه فالفضاء الافتراضي اليوم، هو مسرح النفاق والمتفرج عدد هائل من المتابعين، بل قد يكونوا هم ايضا مؤدين.
تقول الرواية فيما تقول، ان أحدهم دخل الى دكان اسمها «الاخلاق « تبيع منتوجاتها جملة ومفرق، ليجد «شوالات» مكدسة كتب محتواها عليها، فهذا «كذب» وهذا «نفاق» وهذا «شجاعة « و»مروءة « وغيرها الكثير من عناوين رنانة وطنانة لسلع عرضت للبيع ولك كزبون حق الاختيار. تقول الرواية بأن أحدهم اشترى «كم حبة شجاعة» وتناولها مع كوب ماء وعاد الى منزله فوجد حماته هناك تتناول طعام الغداء فافتعل معها شجارت، طردها على اثره من بيته، ثم طرد لاحقا زوجته وابناءه الذين اعترضوا على سلوكه وتصرفه بل اتهموه بالجنون ايضا. نام واستيقظ صباحا وتوجه الى مكان عمله، ومازال مفعول حبوب الشجاعة يسري في عروقه، فأخبره زميله في العمل بأن المدير حاقد عليه بسبب تأخره ولامبالاته، فدخل الى مكتب مديره، مشحونا بفعل حبوب الشجاعة التي أجبرته على مكاشفة من حوله من البشر، بل وايضا مواجهتهم بشخصية حقيقية غير مصطنعة وبكل جرأة وبدون تجميل، وتشاجر معه وقدم استقالته وغادر عمله. عاد الى منزله وحيدا وبلا عمل، ومازالت حبوب الشجاعة تسري في بدنه الوحيد المتهالك جراء الخسارات المتتالية من كسب شجاعة المواجهة والمكاشفة والمصارحة. بعدها جرب صاحبنا حبوب المروءة ولكم ان تتخيلوا حجم الصدمة التي تركها الاثر الجانبي لهذا المستحضر على جسده وروحه في مجتمع يعج بالانانية وحب الذات ونكران الجميل. على كل، حتى عندما فكر صديقنا بشراء حبوب الاخلاق ونثرها في مياه نهر جار، اتهم ب «جرم» نشر الاخلاق واتهم بالجنون، في الصباح قرر العودة الى دكان «الاخلاق» واشترى حبوب النفاق وابتلعها فورا وذهب للاعتذار من كل من سولت له نفسه ذات لحظة شجاعة ان يخرجهم من حياته ويخبرهم بأخطائهم، يبدو اتخذ قراره بأن يصبح مجنونا في ارض عاقلة من وجهة نظر الغالبية العظمى على الاقل.
وفي المساء كان الجميع حول صديقنا البطل الذي جرب حبوب الشجاعة والمروءة، ولم تجدي نفعًا في حياة اعتاد سكانها العيش في ظل النفاق، او اقلها المجاملات التي يطردها هرمون الشجاعة وحبوبها المحفزة.
القصة تحولت إلى فيلم سينمائي رائع، في نهايته أغلق محل بيع الأخلاق أبوابه وكتب على المحل «مغلق لعدم وجود أخلاق»، نعم، نفذت البضاعة، بل لربما بسبب «اللغوصة» التي طالت مواصفات ومقاييس منتج «الاخلاق».
وعودة على بدء فلو عاصر السباعي رحمه الله ما يحدث اليوم على الارض التي اسماها يوما، ارض النفاق، وشاهد وشهد الى جانب الواقع، العالم الافتراضي واسواقه، لترك النهاية مشرعة لاتباع واحفاد افلاطون ليبنوا المدينة الفاضلة من جديد.