تمثلت المخاوف والحجج الدولية من الانضمام للمحكمة إمكانية محاكمة المتهمين عن الجرائم الداخلة في اختصاص المحكمة الدولية وإسناد ذلك للقضاء الداخلي للدولة باعتباره مظهرا من مظاهر سيادة الدولة، ووجود محكمة دولية جنائية يعني الانتقاص من هذه السيادة، لكن من أبرز الخصائص المستخدمة في النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية هو مبدأ التكامل بين قضاء المحكمة والقضاء الوطني بموجب نصوص النظام الأساسي، عدا عن المادة (1، 17) المتعلقان بمبدأ التكامل، لكن هناك آراء كثيرة من جانب الفقه ترى أن هناك تجاوزا للسيادة الوطنية في بعض المواقف التي تتعلق بمبدأ التكامل، عدا عن خضوع العديد من الإحالات إلى التسييس من قبل الدول الكبرى. ولا بد من التطرق الى المفاهيم التالية:
أولا: التغير في مفهوم السيادة المطلقة ومظاهرها
من أكثر المسائل إثارة للجدل فيما يتعلق بالمحكمة الجنائية الدولية ما إذا كانت تشكل تهديدا كبيرا للنظام الدولي يقوم على مبدأ السيادة الوطنية. ومن الأهمية بمكان أيضا أن تتمكن المحكمة من النجاح في تنفيذ ولايتها، نظرا لأن الدول ستسعى بقوة إلى الاحتفاظ بسلطتها السيادية. ولذلك، وكما يقول أحد المراقبين بوضوح، "ربما تكون القضية المركزية التي تواجه المحكمة الجنائية الدولية هي تأثيرها في السيادة".
1-مفهوم السيادة المطلقة ومظاهرها
1- مفهوم السيادة المطلقة: تعبر السيادة عن مفهوم قانوني سياسي ارتبط وجوده بوجود الدولة القومية الحديثة، وأصبح أحد أهم خصائصها وسماتها الرئيسية، وحين توصف الدولة بأنها كيان يتمتع بالسيادة فالمقصود أن الدولة هي التنظيم السياسي والاجتماعي الذي يحق له فرض سلطته على مجمل الإقليم الذي يشكل حدوده السياسية، وعلى جميع الأشخاص الذين يعيشون في هذا الإقليم.
2- مظاهر السيادة
1- على المستوى الداخلي: هناك مسائل كثيرة تدخل في المجال المحفوظ للدولة، أو ما يسمى باختصاصات السيادة الوطنية، فهي غير مقيدة بتحديد المسائل التي تدخل ضمن اختصاصها، فلها كامل الحرية في اختيار نظامها القضائي والسياسي والاقتصادي، وبتطور القانون الدولي أنتج مبدأ الاختصاص الخالص للدولة على إقليمها، والذي يعتبر نقطة انطلاق لتنظيم مجمل المسائل التي تمس العلاقات الدولية، فالسيادة الإقليمية تنطوي على حق الانفراد بممارسة الأعمال الحكومية بما يقابله الالتزام بحماية حقوق الدول الأخرى وبذلك فاختصاصها الإقليمي تحكمه تفاعل ثلاثة مبادىء رئيسية تتمثل في:
- استئثار الدولة وانفرادها بالاختصاص القانوني على الإقليم.
- واجب عدم التدخل في منطقة الاختصاص القانوني المتعلقة بالدول الأخرى.
- ارتباط الالتزامات في ظل القانون العرفي والتعاهدي برضا وموافقة الملتزم.
وقد سبق للقضاء الدولي في قضية الأنشطة العسكرية وشبه العسكرية في نيكارجوا عام 1986 أن أدانت محكمة العدل الدولية الولايات المتحدة عندما قامت بخرق مبدأ المساواة الدولية عن طريق تصرفها الذي تسبب في حدوث ضرر لنيكارجوا، وبصفة خاصة خرق مبدأ أساسي في القانون الدولي العرفي، وهو الالتزام بعدم الإضرار، وعدم التعدي على السلامة الإقليمية للدول.
إذن، فمظاهر سيادة الدولة داخليا يتمثل في حقها في بسط سلطانها وإدارتها لمرافقها داخل الإقليم، وخضوع كل من يقيم على إقليمها لنظمها القانونية وأحكامها القضائية، أما الاختصاص الداخلي للدولة فيعبر عن أسمى مظاهر السيادة؛ لأنه من خلاله تحافظ الدولة على كيانها، والتعدي على هذه الاختصاصات من شأنه الإخلال بمبدأ المساواة الدولية.
2-أما مظاهر السيادة على المستوى الخارجي: فتتمثل في حق الدولة الكامل في الدخول في تحالفات مع الدول الأخرى، وفي إبرام المعاهدات والانضمام إلى المنظمات الدولية أو الإقليمية، وتسيير علاقاتها وروابطها الخارجية مع غيرها من الدول والسيادة هي التي تعطي لها الحق في أن تنفرد باستعمال القوة العسكرية حفاظًا على أمنها الداخلي، وحماية أراضيها من أي عدوان خارجي.
وكثيرا ما يذكر أن نظام روما الأساسي يعترف بنطاق واسع من السلطة التقديرية للمدعي العام في الإجراءات المتخذة ضد مرتكبي الجرائم المزعومين الذين يشملهم. ويقال إن هذا الدور هائل إلى حد أنه يشكل تهديدا كبيرا للسيادة الوطنية. فعلى سبيل المثال، يرد ممثل صيني شارك في مؤتمر روما على دعوة صحيفة وقائع الأمم المتحدة للتعليق على اعتماد نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية هكذا: "منح المدعي العام الحق في بدء المحاكمات يضع سيادة الدولة على القرارات الذاتية للفرد".
ثانيًا: التحول من السيادة المطلقة إلى النسبية
أحدث المتغيرات الحديثة التي شهدها النظام الدولي تغيرات على مفهوم السيادة وتحوله من السيادة المطلقة إلى السيادة النسبية، ومن أهم تلك العوامل:
1-ظهور التنظيمات الحديثة: مثل التكتلات، كالمجموعة الأوروبية وجامعة الدول العربية وغيرهما، وتخضع عملية الانضمام إليها أو إلى الأمم المتحدة إجراءات تعد تنازلا عن فكرة السيادة المطلقة للدولة.
2- مبدأ التضامن الدولي: حيث عرفت الشعوب والأمم ظاهرة التضامن، وهي من الأعراف السائدة التي عاش معها الإنسان منذ القدم في مساعدة الآخرين والوقوف إلى جانبه في الأزمات، ومع تطور الاهتمامات البشرية تطور مضمون ذلك المبدأ بمفهومه الحديث ليثير الكثير من المشاكل حول مفهوم التضامن والمصالح المشتركة والمنافع المتبادلة، وهو بطبيعة الحال أثر في السيادة، حيث لا تستطيع الدول العيش بمعزل عن بعضها، وتفسير السيادة تفسير إيجابي يعني التفاعل وعلاقات التضامن بغية تحقيق المصالح المشتركة بما يكفل استبعاد المفهوم السلبي للسيادة.
3-العولمة: فالتداعيات التي أفرزتها العولمة على كيانات التنظيم الدولي جعلت مفهوم السيادة المطلقة يتلاشى مع التدفق السريع والمتشابك والمتنوع لمختلف مجالات العولمة، سواء أكانت اقتصادية أم ثقافية أم سياسية أم حضارية.
وهنا نجد أن العالم شهد اهتماما متزايدا بحقوق الإنسان على حساب السيادة الوطنية، والذي وجد تكريسه في ميثاق الأمم المتحدة، ثم اتفاقيات جينيف لعام 1949 والبروتوكولات الإضافية لعام 1977، والإعلان العالمي لحقوق الإنسان لعام 1948، وأصبح هذا النطاق ضمن النصوص القانونية الداخلية للدول، بل وصل إلى مبدأ التدخل الإنسان رغم أن الفقه الدولي تبنى مبدأ عدم التدخل لحماية سيادة الدول من الاعتداء وهو ما يوفر الأمن والاستقرار للمجتمع الدولي، لكنه أصبح مكرس في نص المادة (2/7) من ميثاق الأمم المتحدة، ووجدنا وزير الخارجية الفرنسي الأسبق "رونالد دوما" يقول: إن فرنسا ترى حق الإنسانية يسمو على حق الدول، وأنه يسعى دائما أن يلهمه، ولذلك يجب إدراج واجب المساعدة الإنسانية الذي أصبح يومًا بعد يوم جزءا من الضمير العالمي الحديث، كما يرى الفقيه الفرنسي "Mario bettati " أن التدخل الإنساني الذي يتم باستعمال القوة العسكرية لغرض وقف الانتهاكات الخطيرة والمكثفة لحقوق الإنسان يعتبر تدخلًا مشروعًا، وقد أثبتت الممارسة العملية تجاوز هذا المبدأ للسيادة الوطنية.