ظهرت سياسة استهداف التضخُّم، أو سياسة الحد من التضخُّم، بشكل ملموس في الاقتصادات الناشئة في بداية القرن الحالي، وبالرغم من أنَّ تلك السياسة رافقت الفكر الاقتصادي عبر التاريخ منذ انتهاء الحرب العالمية الأولى، فإنَّ تطبيقها بشكل جوهري وفعّال بدأ في بدايات عقد التسعينيات من القرن الماضي من خلال البنوك المركزية في مجموعة الدول الأوروبية، وتوسَّع في بدايات القرن الحالي، منذ العام 2000 في مجموعة الدول الناشئة في آسيا. وذلك بهدف ضبط التضخُّم، ومحاولة السيطرة على انحدار القوة الشرائية للعملة، رغم ثبات أسعار صرفها مُقَوَّمة بالدولار، وفي ظل تلاشي قيمتها الحقيقية في التعاملات التجارية؛ أي انخفاض كمية أو حجم المشتريات من السلع والخدمات التي كانت العملة الواحدة تستطيع شراءها في السابق. وهو ما نراه اليوم، حينما نقارن ما يمكن شراؤه اليوم بمئة وحدة، دينار أو ريال أو درهم، مقابل ما كانت تشتريه تلك الكتلة النقدية قبل عامين مثلاً. فبالرغم من ثبات سعر صرف العملة، فإنَّ قوتها الشرائية تتلاشى أو تنحدر بشكل ملموس، ما يعني أنَّ ثبات سعر الصرف لم يحافظ على قوة واستقرار العملة أو دخل الأفراد. ما يعني الحاجة الماسة نحو ضبط التضخُّم بهدف الحفاظ على القوة الشرائية للعملات، وتحقيق استقرار نقدي حقيقي، مع العمل في ذات الوقت على تحريك عجلة الاقتصاد، وتحقيق معدلات نمو، تمتص البطالة وتمنع التضخُّم الركودي من الحدوث. وتقوم فكرة أو نظرية استهداف التضخُّم Inflation Targeting على أن يعمل البنك المركزي على تحديد هدف محدد ومُعلن لمعدل التضخُّم، باعتبار ذلك الهدف سقفاً لما يمكن للمستوى العام للأسعار أن يصل إليه في الاقتصاد ولا يتجاوزه، وذلك ضمن المدى المتوسط، أي من 3 إلى 5 سنوات. كما يضمن ذلك، وفي حدود تلك الفترة، أن تسعى الدولة نحو سياسات تستهدف النمو ضمن معدلات جوهرية ملموسة في الأجل الطويل. ومن هنا يكون العمل ضمن تناغمية كاملة بين السياسة النقدية للبنك المركزي، والسياسة المالية لوزارة المالية، والسياسة التجارية للوزارة المُختصة بشؤون التجارة، أو وزارة الاقتصاد، على العمل ضمن مفهوم وضع حدٍّ معيَّن للتضخُّم تسعى السياسة الاقتصادية التشاركية للجهات الثلاث إلى تحقيقه، أو استهدافه، ما يعني تغيير سياسات أسعار الفائدة بما يتناسب مع الوصول إلى ذلك الهدف، وتوجيه السياسات المالية من نفقات عامة، وإيرادات ضرائبية وغير ضرائبية نحو استهداف نمو حقيقي، آخذاً في الاعتبار معدل التضخُّم المُستهدف. وأخيراً وليس آخراً، ضرورة أن تتناغم سياسات ضبط الأسواق، التي تتبعها أو تفرضها الوزارة المختصة بشؤون التجارة، أو وزارة الاقتصاد، بما يُساعد على تحقيق هدفي معدل التضخُّم المُستهدف، والنمو المراد تحقيقه. معالجات القطعة، وسياسات الجُزُرِ المتباعدة لا تخدم أيَّ اقتصاد. والظروف الحالية تُحتِّم على صنّاع القرار النقدي والمالي والتجاري العمل سوياً نحو خروجٍ آمنٍ من تبعات الصدمات التي تتعرض لها الاقتصادات منذ اندلاع جائحة كورونا، ومروراً بالحرب الروسية الأوروبية الأمريكية عبر أكرانيا. الخريطة المقبولة خلال السنوات الثلاث القادمة تتمثَّل في ثلاثة توجُّهات محددة. التوجُّه الأول، استهداف معدل تضخُّم يقل عن 5% من قِبَل السياسة النقدية. والتوجُّه الثاني، العمل على استهداف معدل نمو حقيقي صافي يقع بين 3-5%. والتوجُّه الأخير تفعيل سياسة لضبط الأسواق، وتذليل سبل سلاسل التزويد، وفتح أسواق بديلة وموازية، محلية وخارجية، منعاً للاحتكار، وتوجيه آليات فعّالة لحماية المستهلك والتاجر المحلي والمستثمر، بما يضمن ضبط الأسواق من الانفلات، ومن جشع الكثير من التجار المحليين والعالميين. تناغم التوجُّهات الثلاثة، والعمل كفريق سيحقِّق النتيجة المرجوة. سياسات استهداف التضخُّم، أثبتت قدرتها على ضبط التضخُّم، وتحقيق النمو، والحفاظ على القوة الشرائية للعملات، وبل وتحفيز الاستثمار، وكل ما تحتاجه تلك السياسة هو قيام صنّاع القرار في الجهات الثلاث ذات العلاقة ، بالتناغم والعمل سوياً، والبعد عن العمل الفردي، أو العمل ضمن الجُزُر المُنعزلة في صنع السياسات. بقي القول إنَّ دور السياسة التجارية في غاية الأهمية في ضبط الأسواق وكبح جماح أطماع الكثير من التجار، وقد ظهر مؤخراً كتاب بعنوان "العالم للبيع" أظهر كيف يسيطر نحو أربعة تجار عالميين على الأسواق العالمية في الغذاء، والطاقة، والمواد الأساسية، وكيف أنَّ عوائد ما يقومون به من السيطرة على التجارة، والوساطة التجارية، حقَّق لهم ما يقرب من ثلاثة أرباع تريليون دولار في العام 2021. عرّافوا، أو عرّابوا، التجارة يسيطرون على الأسعار والأرباح، ويسيطرون على قوى ضغط، لوبيات، حول العالم تحقق لهم مرادهم من الربح والمغانم الطائلة، والواضح أنَّ لهم في كل دولة وكلاء، همهم في الأرباح والعوائد أكثر من همهم في ضبط الأسواق والقوة الشرائية للدخول. بيد أنَّ الأخيرتين، هما همُّ ودورُ صنّاع القرار التجاري في الدول، ذلك إن أراد أولئك الصنّاع أن يقوموا بدروهم في ضبط السوق، ومقاومة مافيات التجارة العالمية، ووكلائهم المحليين في الدول. ولعلَّ ذلك يوضح ما نراه من ضبط للاسواق في كثير من الدول الجادة في السياسة التجارية، بحيث تكون الزيادات منضبطةً ومُسيطراً عليها، في حين تجد أنَّ الأسواق منفلتة تماماً في الدول التي يعجز فيها صنّاع القرار التجاري عن القيام بدروهم بشكل سليم. فمتوسط الزيادة العالمية في الأسعار، لم يتجاوز 33% إلى 50% في أكثر الحالات جموحاً، ما يعني أنَّ الأسواق التي انفلت عقالها عن تلك المتوسطات هي أسواق بدون سياسة تجارية حقيقية، ولن تتمكَّن من تحقيق أو العمل بنظرية استهداف التضخُّم، واستقرار القوة الشرائية للعملة والدخول المحدودة.