شكل الثاني من ديسمبر من العام 1972 من القرن الماضي،انعطافة هامة في تاريخ الإمارات،وذلك من خلال الإعلان عن أنصع تجربة وحدوية في تاريخ المنطقة الحديث،بقيام دولة الإمارات العربية المتحدة، لكن من يتتبع التاريخ الإماراتي، لا يمسه الشك بأن هذه التجربة الوحدوية الناصعة ليست وليدة لحظتها، وإنما هي امتداد لتاريخ عريق، لشعب قارع بجدارة وصلابة نادرتين ، مصاعب الحياة، وقسوة الصحراء، بإيمان كبير، مسلحاً بقيم وأخلاق عربية وإسلامية، شكلت مع الزمن سمات الإنسان الإماراتي، الذي استطاع وبكل جدارة أن يصنع دولة حضارية بكل المقاييس
فمن الصحراء والأرض الجدب استطاع الإماراتيون أن يشيدوا صرحاً حضارياً نافسوا به دولاً كبيرة وقديمة في التاريخ.
ولعل السؤال الذي يطرح نفسه بقوة هنا هو كيف استطاعت دولة الإمارات، وهي دولة فتية، اختصار الزمن في مسيرتها الحضارية الشاملة، وما هي الأسس التي شيدت عليها هذه الحضارة، التي بات يشار إليها بالبنان؟
في الحقيقة إن الإجابة على سؤال كهذا تتطلب أولاً فهم المعنى الحقيقي للحضارة، فكما هو معروف فإن الحضارة تعني وجود مجتمع بشري يتميز بخصائص عدة كالتطور الثقافي، والصناعي، والحكومي، والتكنولوجي، وتحكمه مجموعة من القيم الأخلاقية والقوانين، التي تسييد حقوق الإنسان، وتسعى لتوفير الحياة الكريمة له.
وبحسب علم الإنسان فإن مصطلح الحضارة يشار به إلى نوع من المجتمعات التي تُظهر مجموعةً من القيم الأخلاقية، مثل: احترام حقوق الإنسان، وإظهار الرحمة تجاه المرضى وكبار السن، والكرم، واحترام الآخر،وتقبل فكرة العيش المشترك، وإعلاء مفهوم التسامح والمساواة بين جميع البشر، بغض النظر عن معتقداتهم وجنسياتهم واختلافاتهم الإثنية والعرقية.
ولو عدنا إلى التجربة الإماراتية، نلاحظ من دون عناء أن النهضة الحضارية الشاملة التي تشهدها الإمارات،رغم حجم الإمكانات المادية الكبيرة للإمارات، إلا أنها استندت في الأساس على مجموعة من القيم الأخلاقية للمجتمع الإماراتي، الذي اتسم على مدى تاريخه الطويل بتمسكه بالعادات والتقاليد العربية والإسلامية الأصيلة،أو ما يعرف بالسنع وهو مجموعة من القوانين والقواعد التي تحكم السلوكيات والآداب في تعاملات الأفراد مع الضيوف والأهل فيما بينهم، وطرق التعامل مع الآخر واحترام الاختلافات الطبيعية بين البشر.
ولعل ما يلفت النظر في الحضارة الإماراتية، هو أنها ولدت من رحم المعاناة، وشظف العيش ، وقسوة الصحراء التي استطاع أهلها بعزيمة نادرة أن يحولوها إلى واحات غناء، ومبان شاهقة، ومدارس وجامعات وصروح علمية عملاقة، باتت موئلاً لكل طالب علم أو معرفة، ناهيك عن تحول الإمارات إلى مقصد لملايين البشر الباحثين عن الرزق والحياة الكريمة من مختلف الجنسيات. .
والحقيقة أن الأمم التي لا تجيد قراءة تراثها وتاريخها ،لابد لها من أن تتعرض للإخفاق والمآزق الحضارية، وهو أمر يبدو أن الإمارات العربية المتحدة، تنبهت إليه وأولته كبير العناية والاهتمام، ولا سيما على يد الراحل الكبير والمؤسس الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان رحمه الله، الذي تمثل بكل جدارة صفات العربي الأصيل والوطني المخلص، فكان مدرسة حقيقية، سار على هديها حكام الإمارات العربية المتحدة من بعده .
ففي كتابه ذاكرة الصحراء، ينقل الكاتب عمار السنجري المستشرق ولفريد ثيسجر ، المعروف بمبارك لندن قوله : إن أحد الصحفيين الذين سأل الشيخ سالم بن حم الذي رافق الراحل الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان رحمه الله عندما كان حاكماً في العين بأي مدرسة درست ؟ أجابه بن حم على الفور وبفطرة البدوي : إنني درست في مدرسة زايد ، ومازلت طالباً للعلم والمعرفة إلى يومنا هذا"
وهذا المثال يقودنا في الواقع إلى الحديث عن الأنسنة في فكر الراحل الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان،مؤسس دولة الإمارات العربية المتحدة ،وصاحب الفضل الأكبر في مسيرتها الحضارية والإنسانية وهو ما يمكن أن نعتبره من أهم الأسس التي تقوم عليها القوة الإماراتية الناعمة، التي قفزت بالإمارات إلى مراتب عليا على الساحة الدولية، وأكسبتها سمعة طيبة في مختلف المحافل الدولية .
ومن يتابع السياسة الإماراتية منذ رحيل القائد المؤسس الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان رحمه الله يلحظ بسهولة أنها تمثل امتداداً طبيعياً لنهج زايد صاحب الأيادي البيضاء والمواقف النبيلة، ومن أمثلة ذلك المواقف الرائدة التي اتخذتها الإمارات إبان جائحة كورونا التي غزت العالم ، ما يذكرنا بتصريح صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان رئيس الدولة حفظه الله في العام 2020 عندما قال: "نحن في سباق مع الزمن ورغم التحديات والصعوبات في مواجهة هذا الوباء فإن هذا الوقت الصعب سيمضي بعون الله ..ونحن في دولة الإمارات علينا مسؤولية حماية وطننا وأهلنا والمقيمين على أرضنا ، مؤكداً أن أن الغذاء والدواء في دولة الإمارات خط أحمر، كما يذكرنا بالمساعدات السخية التي قدمتها الإمارات إلى الكثير من الدول والمحتاجين إبان هذه الجائحة، ما أكسبها ثقة واحترام العالم كله.
أخيراً يمكن القول إن الصفات الإنسانية والأخلاقية كانت وستبقى العنصر الأهم والأبرز في القوة الإماراتية الناعمة، التي تدعو إلى التسامح والسلام ، ونبذ الكراهية والتطرف .