من الواضح اليوم أنَّ البنك الفيدرالي الأمريكي يواجه انتقادات حادة من عدد من المفكرين وعلماء الاقتصاد والمتخصِّصين في الولايات المتحدة؛ بسبب تسرُّعه في النقل من سياسات التيسير الكمّي السابقة، إلى سياسة تشدُّدية انكماشية حادة، وتهاونه المُفْرِط خلال أزمة وباء كورونا، في قبوله بالتوسُّع الكبير بسياسة التحويلات النقدية المباشرة التي حقنت بها السياسة المالية، أو وزارة الخزانة الأمريكية جيوب العامة، بما يزيد على ثلاثة تريليونات دولار، وتوجُّهه بشكل مفاجئ نحو الضغط على مكابح السياسة النقدية وبشدة كبيرة، وفزعه نحو سياسات رفع الفائدة وبشكل كبير، لم تشهده السياسة النقدية الأمريكية بهذا الزخم وهذه الانتفاضة على نحوٍ يزيد على 40 عاماً. التحوُّل نحو مكابح، فرامل، السياسة النقدية لمواجهة التضخُّم المشتعل، والذي أوقدت شرارته في بدايته السياسات التيسيرية الزائدة، وليس الضغوط على سعر الدولار عالمياً، ذاك التحوُّل أدخل العالم أجمع، وخاصة الدول التي اعتمدت الدولار معياراً للاستقرار النقدي، وميزاناً للقوة الشرائية، وتحوَّلت من ربط العملة بقاعدة الذهب، إلى ربطها بعملة الولايات المتحدة الأمريكية، في نفق الركود الاقتصادي المحتوم. بيد أنَّ المعضلة، بل واللغز، أنَّ الولايات المتحدة ومجموعة الدول التي تدور في فلك قاعدة الدولار، ما زالت تواجه الركود بأدوات مكافحة التضخُّم، فهي كالمستجير بالرمضاء بالنار. إنَّ ترك السياسة المالية طوال جائحة كورونا تعبث بالاقتصاد النقدي، ولّد كتلة نقدية ضخمة تدور في الاقتصاد دون إنتاج أو إنتاجية، بل وهو في حالة تعطُّل قصري شبه كامل فرضتها الجائحة. وفي الوقت الذي انتهجت فيه بعض الدول الأكثر حصافةً في القارة الأوروبية مقاربة أكثر واقعية، عبر دعم الشركات، والمشروعات الصغيرة والمتوسطة، لتقوم بدورها بالحفاظ على العمالة وبتحويل جزء مهم من الدعم إلى مواردها البشرية المعطلة قصراً في حينها، بدلاً من التحويلات النقدية المباشرة للعامة، فقد انتهجت السياسة الأمريكية مقاربة التحويلات المباشرة، عبر سياسة مالية، تكفَّلت بها وزارة الخزانة؛ أي المالية، وتعاونت على طبعها مع البنك الفيدرالي، وذلك بهدف تغذية جيوب العامة، وإسعادهم لكونهم ناخبين سيحتاج إليهم الحزب الحاكم آنذاك في الانتخابات الوشيكة. والنتيجة التي سكت عنها البنك الفيدرالي؛ أي البنك المركزي الأمريكي، توليد ضغوط تضخمية نقدية كبيرة، تواءمت مع تعطُّل كبير في القوة الإنتاجية. وفي ظل ذلك السكوت، أو السكون، جاءت تبعات ارتفاع كلف الطاقة، والمواد الأولية، عالمياً، ثمَّ تأجَّج ذلك باندلاع حرب روسية أوكرانية، كان للغرب وأمريكا دورٌ محوريٌّ في مقادير طبخها وفي إيقاد النار تحت قدرها. اليوم، العالم يقف أمام لغز يصعب فك رموز التعامل معه، فقد أطلقت السياسة المالية الأمريكية العنان لتضخُّم نقدي غير محسوب، وجاءت السياسة النقدية لتتعامل معه بأدوات تقليدية، أساسها رفع أسعار الفائدة لتكميش؛ أي ضبط، حجم الطلب الكلي، ففوجئت بضغوط تضخُّمية أخرى بفعل ارتفاع الكلفة، ولدتها السياسة العالمية، وظهرت على أسعار المواد الأولية الأساسية، وأسعار النفط. السرعة في رفع أسعار الفائدة، والجرعات الكبيرة التي قدَّمها البنك الفيدرالي في نسب الرفع الزائد، كلُّ ذلك أجَّج سعير الركود القائم، بل وزاد من كُلف الإنتاج والاستثمار، الأمر الذي زاد من كلف السلع والخدمات المُنتجة من جهة، وقلَّل من شهية الاستثمارات من جهة أخرى. والمحصلة أنَّ العالم يتجه إلى مزيد من الركود الاقتصادي الذي لن تتمكَّن الدول من الخروج منه بسهولة حتى نهاية العقد الحالي. وينقل موقع فورتشن الإعلامي Fortune Media عن أحد أهم الاقتصاديين الأمريكيين، جيرمي سيغل، تعليق مفاده أنَّ ما نفَّذه البنك الفيدرالي الأمريكي خلال العامين الماضيين من سياسة نقدية هو أحد أسوأ الأخطاء التي تمت على مدى 110 أعوام من عمر البنك. المحصلة أنَّ الضغوط التضخمية والانكماشية ستستمر ربما حتى نهاية هذا العقد، خاصة مع التوجُّهات لمزيد من الرفع في أسعار الفائدة؛ أمَّا على المستوى العالمي فإنَّ المخرج لتخفيف أثر تلك المعضلة التي خلقها سوء تطبيق السياسات النقدية، وسرعة الفزع والهلع نحو السياسات الانكماشية النقدية الزائدة، يكمن في توجُّهين أساسيين؛ الأول ضرورة إعادة النظر في سياسة الربط مع الدولار الأمريكي، مع عدم التفريط بسياسة سعر الصرف الثابت، التي وفَّرَت استقراراً نقدياً للعديد من دول العالم، وبمعنى آخر: على الدول أن تجد لنفسها قاعدة تثبيت جديدة، قد تكون سلَّةً محدَّدة جداً من العملات، التقليدية والرقمية، وربط عملتها بها، وعلى أساس سياسة تثبيت جديدة، يتم مراجعة سعر صرف العملة فيها، كل ستة أشهر على الأكثر. حتى لا تظل تدفع فاتورة الضغوط التي يواجهها الدولار بسبب السياسات الداخلية الخاطئة، أو بسبب الضغوط العالمية الخارجية. والتوجُّه الآخر، ضرورة عدم الالتزام بتغيُّر أسعار الفائدة بنفس نسبة التغيير الذي تلجأ إليه الولايات المتحدة؛ فالحال والأحوال مختلفة. وهذا يستدعي الحفاظ على التوجُّه؛ أي الزيادة عند الزيادة والعكس صحيح، ولكن ليس بنفس النسبة أو الحجم، اعتماداً على حجم الدولار في محفظة الدولة المالية والتجارية، ومحفظتها في التسويات الدولية؛ أي ديوناً أو تجارة خارجية، وهو أمرٌ تستطيع البنوك المركزية حول العالم تحديد زخمه بسهولة، وقد يترواح ذلك بين عدم التغيير نهائياً إلى تغيير موازٍ بنفس النسبة والحجم.