قلت في مقال سابق أن البطالة خطر داهم يهدد أمننا الاجتماعي ومجمل مكونات أمننا الأخرى، وقلت أن السياسات التعليمية تلعب دوراً مركزياً في تعظيم البطالة بالإضافة إلى ثقافة المجتمع، وهذه الحقيقة هي التي دفعت جماعة عمان لحوارات المستقبل لإعداد مبادرتها " لتغيير الثقافة المجتمعية نحو التعليم المهني في الأردن" أخذاً بعين الاعتبار أن المجتمع الأردني يعد مجتمعاُ فتياً، تؤكد الدراسات العلمية والإحصائيات أنه يعاني من أزمة اقتصادية ناجمة في جزء منها عن منظومة مفاهيم مختلة تنعكس سلوكاً سلبياً، خاصة في مجال الاقتصاد، من أهمها وابرزها ثقافة العيب، التي انسحبت على الكثير من نواحي حياتنا واختياراتنا، ومن بينها علاقة الغالبية الساحقة من شرائح المجتمع الأردني بالتعليم، حيث خضعت هذه العلاقة لعقود طويلة إلى حالة من الرغائية الاجتماعية، المحكومة بنظرة الرياء الاجتماعي البعيدة عن حاجات سوق العمل، والبعيدة قبل ذلك عن إمكانيات وقدرات وميول الطلبة، واستبدالها برغبات الآباء والأمهات، وهي رغبات أوقعت الأبناء بسوء الاختيار، ودفعت بعشرات الآلاف منهم في السنوات الأخيرة إلى طوابير البطالة، التي تغص بالأردنيين من حملة الدرجة الجامعية الأولى فما فوق، في حالة تكاد تكون نادرة في العالم، يزيد من خطر اختلالها أن مئات الألاف من فرص العمل، تشغلها العمالة الوافدة، التي تستنزف مئات الملايين من العملة الصعبة من بلدنا سنوياً، هو في أشد الحاجة إليها.
لكل ما تقدم وغيره صار من الواجب الوطني، التصدي لهذه الاختلالات حماية للوطن ولشبابه، الذي يعاني من مضاعفات البطالة، بانتشار الكثير من آفاتها في صفوفه، كالمخدرات والسرقة والتفكك الأسري ، ومظاهر الانحراف الأخرى، التي لا علاج لها إلا بتصحيح نظرتنا الاجتماعية للكثير من القضايا والمفاهيم، ومنها علاقتنا بالتعليم، وأول ذلك تحرير التعليم المهني والتقني، وبالتالي العمل اليدوي من النظرة الدونية المتخلفة، التي تنظرها شرائح واسعة من الأردنيين إلى هذا النوع من التعليم، الذي يشكل الرافعة الحقيقية لتقدم المجتمعات الاقتصادي والاجتماعي، كما هو الحال في دول العالم المتقدمة، التي تزيد فيها نسبة إقبال طلبتها على التعليم المهني والتقني كثيراً عن نسبة إقبالهم على التعليم الأكاديمي، ومما يفرض علينا في الأردن أن نحذوا حذوا هذه الدول، إن أردنا لاقتصادنا ان يتعافى، ولأبنائنا الخلاص من شبح البطالة ومضاعفاتها، ولوطننا أن يحقق هدفه بالاعتماد على الذات، ولإيقاف باب مهم من أبواب نزفة الاقتصاد، سواء من خلال تحويلات العمالة الوافدة، أو من خلال انفاقنا على تعليم صار رافداً من روافد البطالة، ولن يتحقق ذلك كله أو جله, إلا من خلال تعظيم إقبالنا على التعليم المهني والتقني، الذي ينقل بلدنا إلى مواكبة العصر ويسهم في تعافي اقتصادنا، وهذه مسؤوليتنا كأفراد وكأسر قبل أن تكون مسؤولية الحكومات، ولهذا كانت مبادرة تغير الثقافة المجتمعية نحو التعليم المهني.