تشير آخر التقارير العالمية الصادرة عن المؤسَّسات الدولية إلى أنَّ تقديرات معدل النمو العالمي تمَّ تخفيضها لتكون في حدود 2.7% للعام القادم مقابل توقُّعات وصلت إلى نحو 3.2% للعام 2022. أي إنَّ هناك تراجعاً متوقعاً يصل إلى نحو نصف نقطة مئوية عن العام الحالي، بل إنَّ الصورة الكلية تشير إلى أنَّ هناك احتمالية بنسبة جيدة أن ينخفض النمو الكلي العالمي إلى ما دون 2%، وذلك في حال استمرت الأوضاع العالمية على النحو الذي نشهده اليوم، خاصة في محور الحرب الروسية الأمريكية عبر أوكرانيا وأوروبا. هذا التحدي الأكبر اليوم تواجهه دول العالم أجمع من غنيّها وفقيرها. بيد أنَّ منظومة الدول متوسطة ومتدنية الدخل هي الأكثر هشاشة في التعامل مع ما يتطلَّبه الوضع العالمي من سياسات ومقاربات للتعامل مع هذه الأزمة التي أجَّجتها شطحات السياسة والمخططات السرّية من قِبَل كبار اللاعبين العالميين. ولعلَّ ما يزيد من تلك الهشاشة ما أفرزته الأزمات العالمية، منذ 2018 من تطوُّرات وتحديات في مجال أسعار السلع الأساسية، وخاصة الغذائية منها، والتي ارتفعت أسعارها على مدى السنوات الأربع الماضية بما يزيد على 50 نقطة مئوية، وباتت اليوم أحد أهم مسبِّبات تضخُّم التكاليف الذي يشهده العالم، إضافة إلى ما شهده من قبل من تعطُّل في قوى الإنتاج وفي سلاسل التزويد والإمداد بفعل جائحة كورونا. الشاهد ممّا سبق، وفي ظل معطيات النمو السابقة، وتحديات التضخُّم الظاهرة والجلية، انَّ إعداد الموازنات العامة يعدُّ من أكبر التحديات التي يمكن أن يواجهها القائمون على المالية العامة في دول العالم أجمع، وخاصة الدول منخفضة الدخل. فمن ناحية تُقدّر بعض الدراسات أنَّ المالية العامة حول العالم بحاجة إلى ما يزيد على 7 مليارات دولار أمريكي لدعم الأسر المحتاجة للدعم، جرّاء انخفاض القوة الشرائية للعملات لدى العديد من دول العالم بفعل التضخُّم المنفلت وتدهور أسعار الكثير من العملات، وأنَّ هناك حاجة إلى استنفاد 9 مليارات دولار من خزائن الاحتياطيات العالمية للدول متوسطة ومنخفضة الدخل لتمويل استيراد المواد الغذائية الأساسية من مصادر خارجية، بفعل وجود الفجوة الغذائية في تلك الدول، والحاجة إلى تجسيرها عبر الاستيراد من مصادر تقليدية وغير تقليدية. ويكفي أن نعلم أنَّ نحو ربع دول العالم، حوالي 48 دولة، كانت تعتمد، بشكل يكاد يكون حصري، في استيراد موادها الغذائية الأساسية من الثنائي المتحارب، أوكرانيا وروسيا. والشاهد ممّا سبق أنَّ صنّاع السياسة المالية عليهم العبء الأكبر في ظل الحاجة إلى توفير سيولة كافية لتمويل استيراد المواد الغذائية ضمن الفجوة الغذائية التي تشهدها كل دولة، والتي تصل أحياناً إلى ما يزيد على 80%، حيث لا تنتج معظم الدول متوسطة الدخل أكثر من 20% من احتياجاتها الغذائية الأساسية، وخاصة من القمح والشعير، خاصة أنَّ الاقتصادات العالمية تمرُّ اليوم بحالة من الركود التضخمي الذي يصعب معه زيادة الإيرادات الضريبية حتى بدون رفع معدلات الضريبة، أو اللجوء إلى ضرائب غير مباشرة عبر مسميات مختلفة من الرسوم والغرامات والايرادات العامة. المالية العامة ستواجه تحدياتٍ كبرى تتعلَّق من جهة بتسديد أرصدة المديونية الخارجية والداخلية القائمة، وتنطلق من جهة ثانية إلى الحاجة إلى توفير موارد لدعم الفئات الفقيرة والمهمشة، بل ودفع الالتزامات الأساسية لإدارة العمليات اليومية للدولة من جهة ثالثة. ولعلَّ الخروج من ذلك ليس من السهولة بمكان، وأنَّ خيارات الحلول الممكنة ليست كثيرة. بيد أنَّ متطلبات العمل للموازنة القادمة للعام 2023 تتطلَّب ثلاثة توجُّهات واضحة؛ الأول يكمن في التخلي عن كافة أوجه التشوُّهات في الدعم، وتوجيهه حصراً وبشكل صارم للفئات المستهدفة وبشكل نقدي مباشرة، وعبر وسائل نقدية أو رقمية محددة. والثاني يتعلَّق بضرورة إيجاد سبل لتوفير إيرادات عامة من خلال توسيع القاعدة الضريبية عبر قنوات المتهربين، وقنوات التسويات المالية مع القضايا والمخالفات القديمة، والتي معظمها غير منصفة وغير منطقية، وقنوات تحفيز وتشجيع الاسثتثمار بما يساعد على دخول دافعين جدد للضرائب، سواء بشكل مباشر أو بشكل غير مباشر. والتوجه الثالث عبر بوابة ترشيد النفقات العامة بشتى أشكالها، وذلك عبر سياسات حقيقية تبدأ بهندسة مالية حقيقية لإجراء العمليات والمعاملات في الدولة، وما قد يستتبعه ذلك من هدر في النفقات عبر تكاليف غير لازمة، انطلاقاً إلى تخفيض أوجه النفقات الجارية المتعددة غير اللازمة، وهي معروفة لصنّاع القرار المالي، وانتهاءً بالقيام بعملية هندسة مالية حقيقية للدورات المستندية وللمعاملات المالية بما يضمن حسن التحصيل ورُشد الإنفاق، وسرعة الأداء وتحسين الإنتاجية العامة للدولة.