في منتصف الشهر الحالي، تشرين ثاني (نوفمبر) 2022، وحسب التقارير الدولية، بلغ عدد سكان العالم 8 مليارات نسمة، بزيادة قدرها مليار نسمة خلال الإثني عشر عاماً الماضية، وتشير الدلائل الإحصائية إلى أنَّ نحو 56% من هؤلاء يعيشون اليوم في المدن والحضر، بزيادة تصل إلى الضِّعف عمّا كان عليه الحال منذ قرنٍ تقريباً، بيد أنَّ المحدد الرئيس في النظر إلى البعد السكاني، من الناحية الاقتصادية، يكمن في قضيتين أساسيتين هما: الفرصة التي تتولد عن الطاقات البشرية- كمورد بشري- من جهة، والتحدي الذي تفرضه التركيبة السكانية العمرية لذلك المورد، من جهة ثانية، وما يتطلَّبه ذلك من أعباء اقتصادية واجتماعية على الدول، خاصة في مرحلتي الطفولة والكهولة. بيد أنَّ الزيادة السكانية هي أيضاً أحد التحديات التي يواجهها العالم في التعامل مع قضايا البيئة والمناخ، وخاصة عند الحديث عمّا تتناوله قمة المناخ المنعقدة في شرم الشيخ "كوب 27" وهي المؤتمر العالمي السابع والعشرون حول قواعد ميثاق المناخ، والذي تشارك به نحو 200 دولة، ويحضره بفاعلية ما يزيد على 100 من قادة العالم المتقدم والنامي، وعلى رأسهم قادة الدول العُظمى. فالتكاثر السكاني، وازدياد التوجُّه نحو المناطق الحضرية، والتحوُّلات العمرية في الهيكل السكاني، والذي يشير إلى تزايد الطبقة السكانية من الفئات العمرية المُنتجة، من 15-64، وتلك التي تخوض ربيع التقاعد، وما بعد التقاعد، كلُّ ذلك يشير إلى ما يفرضه السكان اليوم بسلوكهم الاستهلاكي والانتاجي من تحديات على منظومة التعامل مع محاور قمة المناخ من معالجة انبعاثات الاحتباس الحراري، والمرونة في التكيُّف مع التغيُّرات المناخية، ووفاء الدول بالتزاماتها المالية نحو تمويل تحديات العمل المناخي. بل إنَّ التنمية بمفهومها القائم على الأهداف السبعة عشر لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي UNDP تواجه التحدي الأكبر عند النظر إلى تطورات الخارطة السكانية العالمية، ليس فقط من جرّاء زيادة التعداد السكاني بنحو 15% خلال عقد من الزمان تقريباً، فتلك زيادة نمطية مقبولة نسبياً، ولكن والأهم، نتيجة التحوُّلات التي يشهدها العالم في التركيبة العمرية السكانية. فدول القارة الأوروبية، بكافة أعضائها، الذين يشكّلون نحو 10% من سكان العالم، تواجه اليوم حالة كهولة سكانية، ويواجه الكثير من دول شمال أمريكا، التي تشكّل نحو 5% من سكان العالم، الحال ذاته، في حين تواجه العديد من دول إفريقيا، ودول آسيا، والدول ذات الدخل المتوسط والمنخفض، حالة من النشاط السكاني، الذي يندرج تحت المفهوم المتعارف عليه بما يسمّى "الفرصة السكانية"، وهؤلاء يمثلون في مجموعهم ما يزيد على ثلثي سكان العالم. وتقع منظومة دول المنطقة العربية، ضمن ذلك التصنيف، فهي تواجه هرماً سكانياً شبابياً متفاعلاً للغاية. وتقوم فكرة الفرصة السكانية على أن تكون نسبة السكان ممّن هم في الفئة العمرية بين 15 إلى 64 أعلى من الفئتين الأقل والأكبر من ذلك. وتشير البيانات بشكل عام إلى أنَّ معظم الدول العربية اليوم تمرُّ بهذه الحالة، وأنَّ أوج تلك الفرصة السكانية سيتحقَّق في المنطقة العربية بين الأعوام 2030-2050. والشاهد من ذلك ثلاثة محاور تنموية اقتصادية اجتماعية يستلزم الانتباه إليها لغايات استشراف مستقبل التنمية، والمناخ، والازدهار الاقتصادي في المنطقة العربية. وتتمثَّل تلك المحاور في محور روابط التعليم وسوق العمل، ومحور التحوُّلات الهيكلية في القطاعات الاقتصادية، ومحور الرشاقة في الخدمات العامة. ذلك أنه بعد انقضاء تلك الفترة ستتحوَّل العديد من مناطق العالم نحو الكهولة، خاصة مع تدني مستوى النمو السكاني إلى أقل من 1% في المتوسط وعلى المستوى العالمي، وانخفاض مستوى الخصوبة، وارتفاع مستويات توقُّع الحياة بشكل ملموس. وفي الوقت نفسه فإنَّ فوات الفرصة السكانية دون استغلال، سيجعلها تتحوَّل إلى "نقمة سكانية" على كلِّ من يفوته قطار التخطيط السليم للاستفادة من الفرص التي تولدها التركيبة السكانية الشابة، ضمن فترة الفرصة السكانية. وبالعودة إلى المحاور التنموية المشار إليها سابقاً، فإنَّ محور التعليم وسوق العمل يتطلب اليوم، وخاصة في الدول التي تشهد حالة الفرصة السكانية، أن تتحوَّل من فكر التعليم القائم على الشهادات، إلى التعليم القائم على المهارات والمؤهلات، وخاصة تلك المهارات المرتبطة بالإبداع والابتكار، وما يرتبط بذلك من مهارات التطوير الذاتي في اللغات الأجنبية، وفي الرقمنة، وفي الاتصال والتواصل، فسوق العمل اليوم يشكو، في معظم دول العالم النامي، من بطالة هيكلية أساسها حملة الشهادات بدون مؤهلات مناسبة لسوق العمل الآني والمستقبلي على حدٍّ سواء. وفي الوقت الذي يشير فيه مقال في مجلة التمويل والتنمية الصادرة عن صندوق النقد الدولي إلى أنَّ القارة الأروبية تشكو من حالة الكهولة، وحالة توافر وظائف دون توافر عمالة كافية لها، فإنَّ الدول النامية تشكو، في معظمها، من فائض عمالة لا تتناسب مؤهلاتها مع سوق العمل المحلي أو الإقليمي أو حتى الدولي. أي إنَّ تلك الدول تكاد تخسر الفرصة السكانية، والتي ستتحوَّل إلى كهولة في نهاية العقود الثلاثة القادمة تقريباً، ما يعني التحوُّل إلى أعباء على الحكومات في مجال خدمات البنية التحتية، في الصحة، وفي الطرق، وفي الاتصالات، وفي الفجوة الغذائية والأمن الغذائي، دون توليد إنتاج أو إنتاجية ملائمة. وعلى صعيد المحور الثاني، فإنَّ التطوُّرات العالمية تشير إلى تحوُّلات كبرى في اقتصاد المعرفة ستعني بالضرورة سيطرة القطاعات التي تعتمد على البيانات الكبرى، وعلى المخزون الفضائي من سحابات البيانات، وعلى البحث والتطوير التقني والرقمي، وهو ما يعني تغيير كامل في شكل العمليات الإنتاجية، وهيكل التكاليف، وهيكل الموارد، والكلفة، ومستويات العرض والطلب الكلي، أي إننا سنواجه منظومة رقمية تقنية ميتافيرسية في العديد من قطاعات الصناعة، والخدمات والزراعة، يحكمها فضاءات المعلومة، والتقنية والرقمنة، تتحكّم في سلوكيات الإنتاج، وسلوكيات الاستهلااك بشكل كبير، وما الطباعة ذات الثلاثة أبعاد 3 D»» وتقنيات الأجروتك «الزراعات التقنية»، وتقنيات سلاسل التزويد والتسويق الرقمية، إلا نماذج أولية لما يتجه إليه العالم خلال العقد القادم. أمّا في المحور الثالث والأخير، فإنَّ التحوُّلات السكانية، والتحوُّلات المناخية، ستفرض على الحكومات منظوراً جديداً مختلفاً للخدمات الحكومية، وهو منظور يحكمه مفهوم الرشاقة والحاكمية في آن واحد. ذلك أنَّ حكومات المستقبل ستواجه تحدياتٍ كبيرةٍ في حجم وزخم الطلب على الخدمات العامة، بل ومستوى سقف التوقُّع المرتفع لنوعية الخدمات المقبولة من قبل المواطنين والمستخدمين. ففي عالم الرشاقة الحكومية لا تعدُّ المرونة في استيعاب المتطلبات هي المعيار الأساس، بل إنَّ التوقُّعات ستتجاوز ذلك إلى نوعية الاستجابة، والاستباقية في التحسين، والانتقال السريع بين الخدمات المتداخلة، وفق منظومة من الشراكة مع القطاع الخاص المحلي والعالمي، وبشكل شفّاف ونزيه وعادل ومتسارع. فالعالم يتحوَّل نحو فكرة المواطن العالمي Global Citizen، الذي يتم تخزين بياناته الشخصية ومؤهلاته العلمية ومهاراته المعرفية، وخبراته العملية، وممتلكاته من الأصول المنقولة وغير المنقولة، الملموسة وغير الملموسة، بل وسجله الطبي وسلوكياته الاستهلاكية وتفضيلاته من المأكولات ومستويات الحمية التي تلزمه، في سحابة تخزين عالمية متاحة على شبكة البيانات الكبرى لكافة الفاعلين في العالم. وهو ما يعني في النهاية أنَّ الحكومات حول العالم ستواجه حاجة ماسة إلى قوالب جديدة للعقد الاجتماعي العالمي، قوالب تشكِّل تحدياً كبيراً في المستويات المطلوبة للبقاء، والاستمرار، والاستدامة، وحتى في الشرعية المكانية والزمانية. العالم يسير نحو إرهاصات جديدة، تفرض التحوُّل نحو الحكومة العالمية على الجميع، كما فرضت المواطن العالمي، والدول التي تمتلك الفرصة السكانية هي التي تواجه الفرصة من جهة، والتحدي من جهة أخرى. ولعلَّ استشراف المستقبل يفرض عليها أن تخطِّط للعقد القادم وما بعده وفق معطيات غير تقليدية، استباقية، استشرافية رشيقة، عبر فرق عمل متعددة في المجالات الاقتصادية والاجتماعية، وبالشراكة مع خبراء العالم في كافة مجالات العلم، والتقنيات، والرقمنة، والرشاقة المؤسَّسية. وخلافاً لذلك ستطغى التحديات على الفُرَصْ، وهو ما لا يأمله أحد من مخطِّطي المستقبل والمفكرين به بإيجابية عالية.