لا شكَّ أنَّ تحريك عجلة الاقتصادات حول العالم يقوم أساساً على تحقيق نمو محوري ملموس في القطاعات المُحرِّكة للاقتصاد، وتلك قطاعات تسيطر في العادة على الحجم الأكبر من الناتج المحلي الإجمالي للدولة، ما يعني أنها القطاعات التي بنموها يتحقَّق نمواً ملموساً في عجلة النمو الاقتصادية، لا لأنها تشكِّل النسبة الأكبر من توليد الدخل في الاقتصاد فحسب، بل لأنها أيضاً تُحرِّك معها العديد من القطاعات الأخرى، ضمن ما يُسمّى في علم الاقتصاد «الروابط الأمامية والخلفية للقطاعات». بيد أنَّ مفتاح تحريك الاقتصاد وقطاعاته يتم بشكل أساسي عبر توفر مدخرات قومية يمكن تعبئتها وتوجيهها نحو أوجه الاستثمارات الخاصة والعامة، لتتجه نحو القطاعات المُستهدفة، بغية تحريكها، وحقنها بالاستثمارات المالية التي تكفل أن تعمل تلك القطاعات على استغلال طاقاتها ومورادها البشرية والمادية والطبيعية. والعلاقة طردية بكل تأكيد بين حجم المشاريع وحجم الأثر الذي ستتركه على أي اقتصاد، فكلما زاد حجم المشروع المستهدف في تحريك الاقتصاد، زادت قيمة الاستثمارات المطلوب حقنها، أوضخها فيه، مما يؤدي إلى زيادة قيمة المنتجات النهائية من السلع أو الخدمات التي تنتج عن تلك الاستثمارات. وبالقدر الذي يهتم به علم الاقتصاد بما يتم حقن الاقتصاد به من أموال من أجل تحقيق النمو الاقتصادي، فإنه أيضاً يهتم بحجم التسرُّب الذي ينسحب من الاقتصاد نتيجة خروج الأموال من جيوب المواطنين، أو من جيوب الخزينة العامة للدولة، أو حتى من الاحتياطيات الأجنبية المتاحة لدعم الاستقرار النقدي. وجيوب المواطنين تتسرَّب منها الأموال إمّا للإدخار وإمّا للضرائب، وإن كانت الأخيرة باتت تشكِّل التسرُّب الأكبر للشريحة الأكبر من الأفراد، وهو تسرُّب يُفترض أن يتحوَّل إلى حقن اقتصادي حال تحوُّل تلك الضرائب إلى دخول للعاملين والمتعاملين مع الجهاز الحكومي يتولَّد عنها إنفاق في الاقتصاد الكلي. والادخار القومي في الاقتصاد هو ادخار كافة الجهات بما فيها الحكومات، إضافة إلى قطاع الأعمال والأفراد. والاقتصاد الذي لا يتساوى فيه الادخار القومي مع الإنفاق الاستثماري، هو اقتصاد يعاني من فجوة إدخارية، وبالتالي فهو موجَّه نحو الاقتراض. ولما كان الاستهلاك أو التسرُّب أو النفقات إما استهلاكية أو استثمارية، فإنَّ المحدِّد الأساس في أثر ردم فجوة الادخار على الاقتصاد؛ يكمن في التحقُّق من كون الاقتراض لتغطية الفجوة جاء لغايات تغطية استهلاكات فردية جارية؛ أي لدفع الرواتب، والإنفاق الجاري غير الرأسمالي، أم لتحقيق زيادة حقيقية في رأس المال الوطني عبر مشاريع استثمارية حقيقية تؤدي إلى زيادة حجم التكوين الرأسمالي في الاقتصاد. وعلى الرغم من أنَّ الاقتراض لغايات التمويل الرأسمالي، العام والخاص، غير مذموم أو مُستنكَر اقتصادياً بشكلٍ عام، فإنَّ ذلك الاقتراض، وإن كان يُفترَض فيه أن يؤدي إلى مشاريع اقتصادية تحقِّق تشغيلاً للعمالة، واستغلالاً للموارد المادية والطبيعية في الدولة، وحدوث نموٍّ اقتصاديٍّ حقيقيٍّ ناتجٍ عن ذلك كله، غير أنَّ محاذير ذلك تكمن في ثلاث محطات أساسية محورية لها مغانمها وعليها مغارمها التي لا بدَّ من الانتباه إليها بعناية فائقة. المحذور الأول والأهم هو في الوضع القائم للمديونية نسبة إلى الدخل في الدولة، وهنا الحديث عن الدين العام القومي، ولعلَّ مقياس التوازن العالمي يشير إلى أنَّ الدول التي تتخطّى فيها المديونية نسبة إلى الناتج المحلي الإجمالي عتبة 65% تكون قد دخلت مفترق طرق يجب الانتباه إليه في طلب المزيد من المديونية، فهي تصبح بعدها غير جاذبة للدائنين، ولا تخضع لمنظومة أسعار فائدة معقولة، ولا تستطيع الدخول في مزيد من المديونية دون أن تدفع أثماناً اقتصادية واجتماعية وسياسية عالية. وكلما ارتفعت النسبة عن تلك العتبة زادت حدة العوامل المشار إليها، وزاد أثرها السلبي في الاقتصاد. المحذور الثاني يكمن في السبب المُنشِئ للمديونية؛ أي هل هي لغايات جارية ونفقات متكررة، أم لغايات رأسمالية استثمارية ضمن مشاريع حقيقية واضحة وموجهة للقطاعات المُحرِّكة للنمو. وحتى حين الحديث عن تلك المشاريع والحاجة إلى تمويلها فإنَّ التجارب العالمية منذ الأزل تحتِّم على الاقتصادات عدم النزوع إلى المديونية إن كان محذور نسبة المديونية؛ أي حجمها، كبيراً بشكل محوري؛ أي يفوق عتبة 65% بكثير. فالتجارب العالمية تشير إلى دخول الدول بمعترك عدم الاستقرار النقدي خلال فترة وجيزة من الزمن، إذا ما كانت نسبة المديونية فيها عالية، وتتجاوز 80% من الناتج المحلي الإجمالي، ما يعني ارتفاع خدمة الدين، الأقساط والفوائد، وتزايد العبء المالي النقدي على موازنة الدولة، بل وتهديد الاستقرار النقدي مستقبلاً. فالمديونية للمشاريع الكبرى، حتى وإن كانت مبررة رأسمالياً، إلا أنَّ التجارب العالمية تجعلها خطرة مستقبلاً على الاستقرار الكلي للدول. أمّا المحذور الثالث والأخير، فإنَّ المديونية لغايات تجسير فجوة الادخار الوطني تتطلَّب التحقُّق من مصدرها وهيكلها من حيث التكاليف والاستحقاق. فحتى المديونية الرأسمالية التي يكون مصدرها تجارياً؛ أي ليس مؤسَّسات دولية، بل سندات من سوق رأس المال المحلي أو الدولي، بما فيها ما يُسمّى اليورو الدولار وسندات الخزينة الدولية بالدولار، وحتى السندات المكفولة عالمياً، فهي جميعها ذات كُلفة عالية نسبياً، وهيكل تسديدها قصير الأمد، وتحتوي مشروطية قاسية في التسديد، سواء من حيث خدمة الدين أو الجدولة. والشاهد ممّا سبق أنَّ المديونية بعد عتبة محددة، بعد تجاوزها 65% من الناتج المحلي الإجمالي للدولة، تصبح غير مريحة وغير مرغوبة ولا تؤدي الغرض منها إلا في الأجل القصير، حين تتدفَّق تلك الأموال إلى الاقتصاد، وتساعد على ظهور معدلات نمو اقتصادي حقيقي، ولكنها مُرة شديدية المرارة في الأجل المتوسط والبعيد. وعلى أهمية إقامة المشاريع الكبرى، فإنَّ أفضل هيكلية لها أن تتم عبر شراكات حقيقية مع شركاء ماليين واستراتيجين في آنٍ واحد، حيث تُقدِّم الدول أصولها المادية والطبيعية بغية استغلالها من مستثمرين من ذوي الاختصاص في القطاع المعني، ومن ذوي الملاءة المالية الحقيقية، ضمن معادلة تضمن للدولة حصة ملكية لا تقل عن 26% من حجم الاستثمار، ليكون لها الحق دوماً في توجيه دفة الاستثمار، إن حاد عن أهدافه، وضمن تسهيلات وحوافز تجذب أكثر المستثمرين جدية في القطاع، ولا تعدُّ الملاءة المالية شرط كافي هنا، بل هي شرط ضروري ولكنه غير كافٍ، وما يتممه هو شرط المعرفة والخبرات والسيرة المهنية والمسار المهني الناجح في المجال المعني. لا أعتقد أنَّ من النجاعة الاقتراض للبدء بمشاريع كبرى، حينما تكون ديون الدولة عالية أصلاً، ولكن الأفضل استبدال ذلك بشراكة مالية استراتيجية حقيقية شفّافة عادلة ونزيهة وذات حاكمية مرتفعة، وبخلاف ذلك تدخل الدول في فخ المديونية للأجيال الحالية والقادمة، ونفق الارتهان اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً للدائنين.