رئيس التحرير : خالد خطار
آخر الأخبار

الهندسة المالية الموجهة للنمو والتنمية بقلم: الدكتور خالد واصف الوزني

الهندسة المالية الموجهة للنمو والتنمية بقلم: الدكتور خالد واصف الوزني
جوهرة العرب 

الدكتور خالد واصف الوزني
                     أستاذ مشارك سياسات عامة
كلية محمد بن راشد للإدارة الحكومية
بالرغم من أنَّ مفهوم الهندسة المالية ما زال تحت الاختبار في العديد من العلوم، وخاصة في الشأن الاقتصادي، فإنَّ من المهم توظيف ذلك المفهوم لدى الدول التي تعاني من انفلات مالي يكاد يعصف بالقوة الشرائية للعملات ويهدد جانبي معادلة النمو الحقيقي، أي الدخول من جهة، وممكنات أو مقومات النمو من جهة أخرى. وما يدعو للقلق هو أنَّ الموازنات العامة باتت تُعدُّ اليوم، في العديد من دول العالم النامي، على أساسٍ رياضيٍّ بحت، بدلاً من أساسٍ ماليٍّ تنمويٍّ. والفرق شاسع بين الأمرين؛ فالأول يقوم على تحديد أوجه النفقات المُخطَّط لها للعام القادم، والأخذ بعين الاعتبار مستوى نموها المرسوم أصلاً والمُحدَّد بفعل قواعد العمل والإجراءات، كما هو الأمر في بنود الرواتب والأجور وما شابهها، ومن ثمَّ رسم سياسات محددة لتغطية تلك النفقات، وقد باتت التغطية اليوم تتمُّ من خلال تمويل العجز، أي تمويل ما يصعب تسديده من تلك البنود عبر الإيرادات المحلية من خلال المديونية الداخلية والخارجية، مع الأخذ بعين الاعتبار إمكانية توافر مساعدات خارجية، وهذه ذات أثمان باهظة غير منظورة بالضرورة. في حين أنَّ منهجية إعداد الموازنات العامة عبر إعادة الهندسة المالية وسياسات تحقيق النمو الذاتي، والتنمية المتوازنة تتطلَّب جهداً مختلفاً من صنّاع القرار المالي، ويرتكز ذلك على تطبيق سياسات استراتيجية مالية آنية ومستقبلية توفِّرمصادر دخل مستدامة تعزِّز من الاستقلال المالي للدولة دون أن تخنق دخول الأفراد أو تضرب بعوائد أصحاب المشاريع والاستثمارات. الهندسة المالية هي المخرج الذي يمكن من خلاله تحقيق المنهجية الثانية التي تقوم على توجيه صنع القرار المالي في الموازنات نحو النمو والتنمية الحقيقية، بدلاً من المنهجية الحسابية التي تقوم على استخدام الآلة الحاسبة في تحديد حجم الإيرادات المُفترضة اللازمة لتغطية التكاليف الغارقة في الموازنات، أي النفقات التي لا مناص من دفعها، ولا مندوحة من توفير مصادرها، حتى لو كان ذلك عبر الجور على جيوب العامة، أو اللجوء إلى قناة المساعدات ذات الكلف غير المالية الباهظة، أو الاستدانة عبر تجفيف فوائض النقد المحلي، ومزاحمة الاستثمار المتوقع، أو عبر اللجوء إلى الاقتراض الخارجي باهظ التكاليف المالية والسياسية. الهندسة المالية هي مكونات ذات تقنية رقمية ومنهجية ومقاربات غير تقليدية تقوم، خاصة في حالة الدول ذات التشوهات المالية الكبيرة، على أسس ثلاثة: الأساس الأول يقوم على وقف الهدر المالي، بما فيه الدعم النقدي غير الموجه للمستحقين، إضافة إلى تجفيف منابع الهدر المالي الصغيرة والكبيرة على حدٍّ سواء، ومهما كانت تلك المنابع، ولعلَّ الكثير منها لا يتعلَّق بالفساد بقدر ما يتعلَّق بسوء وطول وضخامة الإجراءات المطلوبة، وتراكم الهدر المالي في أسلوب إنجازها، فالكثير من الإجراءات تتطلَّب تكاليف مباشرة وغير مباشرة، تبدأ بتوظيف من لا حاجة له، ولا تنتهي عند الهدر في استخدام الموارد والمواد المكتبية وغيرها من المستهكات. وبالتالي فإنَّ أول متطلب للهندسة المالية هو إعادة هندسة كافة إجراءات العمل والتحوُّل بها نحو إلغاء ما لا حاجة له، أو تبسيطها، ومن ثمَّ رقمنتها، وأخيراً ضبط مستوى الحاكمية الرشيدة، من حيث النزاهة والشفافية، في إنجازها. وهذا كله يعني توفيراً في النفقات قد يتجاوز 25% من الحجم الكلي لها. الأساس الثاني للهندسة المالية يكمن في توسيع قاعدة الوصول إلى موارد الدولة من الإيرادات الضريبية وغير الضريبية، وذلك عبر صياغة مصفوفة تميّز مالي تقوم على معرفة العبء الضريبي المناسب لكل وجه من أوجه الضريبة، أو الإيراد، ومن ثمَّ زيادة تلك النسب عند الحاجة، وتخفيضها في حالات كثيرة، وصولاً لما يُسمّى هيكل الإيرادات العامة الأمثل Optimal Structure of Public Revenue، وهذا الوجه من مفهوم الهندسة المالية يتطلَّب من القائمين على سياسات المالية العامة اللجوء إلى المختصين لتصميم مصفوفة واقعية للإيرادات العامة، تشمل النسب الأمثل لكل وجه من أوجه الإيرادات العامة، والمُكلفين به، وحجم التغطية الأمثل للمكلفين، وكيفية ومنهجية الوصول إليهم، ومتطلبات التغطية الأمثل، ومتطلبات منع التهرب، والحاكمية المطلوبة في التحصيل، بما في ذلك التحصيل عبر شراكات ومن خلال التعهيد Outsourcing. أما الأساس الثالث والأهم في الهندسة المالية فيتم عبر فتح المجال بشكل واسع لشراكات حقيقية مع القطاع الخاص عبر مشاريع اقتصادية كبرى يتم البدء بها في كافة المناطق وبفكر الشراكة والتشاركية، وضمن أهداف تنموية كبرى، تُحقِّق للمالية العامة مصدرَ إيراداتٍ دائماً من جهة، وتحقِّق حجماً كبيراً من الوظائف، بما يُساعد على تحويل العاطلين عن العمل إلى دافعي ضرائب بمجرد توظيفهم، وعبر ما سينفقونه على السلع والخدمات التي كانوا غير قادرين على استهلاكها بسبب تعطُّلهم عن العمل. شراكات تؤدي إلى إطلاق مشاريع كبرى تستوعب الكثير من العمالة ولكنها أيضاً تحقِّق عوائد كبرى للاقتصاد وللخزينة. يبقى السؤال ما إذا كانت الهندسة المالية بمبادئها السابقة ستقدِّم حلاً آنياً وفورياً للمشكلات المالية للدولة؟ والجواب، لن يتمكَّن أيُّ منهج من حلِّ كافة التشوهات المالية في عام واحد، ولكن يمكن تحقيق ذلك بالتأكيد على فترات قد تترواح بين ثلاثة إلى خمسة أعوام. بيد أنَّ من المهم البدء الفوري، ولا بدَّ من الجدية، والإصرار، وقد يتطلب الأمر اللجوء إلى الاقتراض مؤقتاً، لمعالجة تشوهات قائمة تحتاج إلى سنوات للخروج منها، ولكن يجب أن يرتبط ذلك بخطة مالية تؤدي إلى إنسحاب الاقتراض وإحلاله بما حقَّقته سياسة الهندسة المالية من موارد مالية ذاتية مقبولة ومتوازنة ومستدامة، وصولاً إلى استقلال مالي تام، عبر تغطية كافة أوجه النفقات المحلية عبر الإيرادات المحلية، دون إرهاق لجيوب العامة أو لعوائد المستثمرين.  
khwazani@gmail.com ​​​​أرسلت للنشر بتاريخ​​26/12/2022
3