درجت منذ سنوات فكرة تمويل المشاريع الريادية لدى المنظمات، والجهات التمويلية المحلية والدولية التي تعمل في مجال التمكين الاقتصادي بقصد تقديم الدعم لأصحاب المشاريع الناشئة والمبادرين من الشباب والنساء، وذلك عبر تقديم منح غير مستردة ودون مقابل، أو قروض بفوائد وشروط محددة للسداد. وبرز أيضًا مجال آخر لتقديم الدعم لهذه الفئة عبر توجه شركات استثمارية وجهات رسمية للاستثمار في الأفكار الناشئة والريادية التي تم الترويج لها كمشاريع ريادية اجتماعية وخاصة تلك التي تركز على قطاع التكنولوجيا والتطبيقات تيمنًا بالنمط الغربي، وفكرة الاستحواذ وتحقيق أرباح سريعة طائلة للجميع. وبعد سنوات من انتشار هذا النمط من الدعم، وتوجه الشباب للتوسع في هذه الأفكار والقطاع في الأردن ومنطقتنا العربية، بدأت تظهر تقارير عن فشل بعض هذه التجارب أو توقفها تمامًا، منها محليًّا ما انتشر مؤخرًا عن تعثر شركة (جملون) الناشئة، وعالميًّا بتعثر العديد من هذه الشركات خلال جائحة كورونا وبعدها بشكل خاص، والذي كان الشرارة التي دفعت باتجاه مناقشة هذا الموضوع مع عضوات شبكة نساء النهضة وكتابة هذا المقال.
وضمن منبر "نقش" التفاعلي، طرحنا في شبكة نساء النهضة وهي إحدى الشبكات التي أسستها وأطلقتها منظمة النهضة العربية للديمقراطية والتنمية (أرض) سؤال "نقش" الجديد على عضوات الشبكة للنقاش والمشاركة في الرأي للاستفادة من خبراتهن العملية واستقاء الدروس حول موضوع أيهما الأفضل لضمان تحقيق أهداف المشروع، أهو تمويل المشاريع الصغيرة والريادية من خلال القروض الميسرة وقروض المرأة، أم عبر المنح غير المستردة مشروطة كانت أم غير مشروطة؟ وما هي اقتراحاتكن حول إعادة النظر في فكرة المنح التي قد تكون أسلم للمستفيد/ة مع الإراحة من أعباء السداد وعواقبه القانونية ومدى ضمان استدامة المشاريع على الرغم مما خلفته هذه القروض من اعتمادية، وتحولها إلى وسيلة تربح للجمعيات والأفراد ومبادرات المشاريع الصغيرة دون جدية في استدامة هذه المشاريع؟
على الرغم من تنوع الآراء والأفكار التي طرحت، إلا أن عضوات الشبكة اللواتي شاركن في النقاش قد اتفقن حول مجملها. فالمشاركات هن إما أنشأن وترأسن منظمات غير حكومية محلية منذ سنوات عديدة، أو يترأسن مشاريع لدعم الشباب والأفكار الريادية، أو أنهن من الأكاديميات. بدأ النقاش بمحاولة تحليل أسباب فشل المشروع الريادي جملون، وهو موقع لبيع الكتب على الإنترنت، أُسس عام 2010 كشركة أردنية تقوم ببيع الكتب من أي مكان، وقد ضم الموقع أكثر من عشرة ملايين عنوان، كما يعد قصة نجاح إذ أنشأه أخوة اعتمدوا في البداية على موارد مالية محدودة جدًا لفكرة قابلة للنجاح والاستدامة والانتشار وحولوا حلمهم الصغير إلى مشروع ضخم تصل شهرته إلى بلدان كثيرة. نجح جملون فتوسع واستقطب تمويلات جديدة من جهات وازنة ومهمة في كل مرحلة، ولكن انتهى به الأمر إلى خسارات تهدده بالإقفال التام، والمؤسف هنا أنه ليس المشروع الريادي الأول الذي يهوي ولن يكون الوحيد.
وأجمعت بعض المشاركات على أن جملون هو مشروع استثماري تجاري وأن سبب فشله سوء الإدارة، فهو نمط من الاستثمار عالي المخاطر، خاصة عندما يلجأ المستثمرون الشباب إلى توسيع مشاريعهم وزيادة قيمة استثماراتهم في سوق غير مستقر. فأصحاب جملون لم يفقدوا فقط استحواذ شركة عالمية كأمازون، بل أضاعوا أيضًا الدفعة الثانية من التمويل الضخم بملايين الدولارات والذي حصلوا عليه في توسع غير مدروس للمشروع بهدف جلب الاستحواذ من أمازون ولفت النظر إليهم، وهي مغامرة تكررت عربيًّا من قبل، وبمبالغ مالية خيالية مثل تطبيق جواكر وموقع مكتوب، وغيرهما.
اتفقت المشاركات على أن مصطلح المنحة يختلف تمامًا عن مصطلح الاستثمار أو القرض، فالمنح هي أموال غير مستردة تقدم لأشخاص، أو جمعيات، أو مؤسسات بشروط محددة ولفترة سداد طويلة. في حين أن الاستثمار هو قرار تجاري بحت يخص مشروعًا معينًا، أما القروض التي تقدمها بعض المؤسسات في الأردن فتتم بإعطاء قروض صغيرة بشروط ميسرة، ودون فوائد والتزامات قانونية تضمن الالتزام بالسداد خلال فترة طويلة الأجل. لكنها برأيهن بحاجة إلى إعادة نظر في آليات الاقتراض ومعاييره وذلك ضمن توفير تسهيلات آمنة لكلا الطرفين، وبرامج تدريبية مكثفة تسبق عملية الإقراض في مواضيع إدارة القرض، وآلية التسويق، إضافة إلى متابعة حثيثة وإشراف مستمر من الجهة المنفذة.
في المقابل، تشكل القروض المقدمة بفوائد مرتفعة عبئًا على النساء تحديدًا لأنها في الغالب تذهب لتسديد ديون ونفقات أسرية، أو قد يستولي عليها الزوج. وذكّرت إحدى المشاركات بظاهرة الغارمات التي برأيها أوجدتها تشريعات تنحاز إلى قطاع البنوك والمؤسسات الإقراضية، واستغلال فكرة تمكين المرأة اقتصاديًّا من هذه المؤسسات لنساء من بيئات فقيرة وهشة تنقصهن المعرفة، والقدرة على اتخاذ القرار، والوعي بالمخاطر القانونية المترتبة عليها في حال عدم تسديد القرض، وغالبًا ما يكون دافع التقدم لأخذ القرض غير ذي علاقة بحاجة المرأة له، بل بتأثير وضغط قد يصل إلى حد التهديد من الزوج والأسرة. أما المنح، فهي عادة تقدم للحالات الفقيرة جدًا لتحسين نوعية الحياة لكنها أيضًا بحاجة لتوجيه ومتابعة خوفًا من استغلال بعض المستفيدات من المنح. وهناك المستوى الأعلى من التمويل المقدم من القطاع الخاص الذي عادة ما يهدف للاستثمار في طاقات الشباب وتبني أفكارهم الابتكارية ومشاريعهم. واقترحت إحدى المشاركات تعزيز نهج الإقراض الجماعي والذي قد يكون له أثر إيجابي من حيث تعاظم الجهود، والخبرات وتخفيض المخاطر. ومهما كان نوع البرامج الإقراضية، فمن البديهي أن يكون هدفها الرئيسي المساهمة في تطوير المشاريع لا أن تكون عبئًا إضافيًّا على أصحابها أو المستفيدين/ات منها.
وحول بعض التحديات ذات العلاقة بآلية الإقراض، لفتت إحدى المشاركات إلى أن ما يقلق الجهات المانحة خاصة المؤسسات أو المنظمات المجتمعية (أي منظمات المجتمع المدني وتلك غير الحكومية)، هو تقديم منح لمستفيدين من مشاريعها ومبادراتها دون التزامات مالية أو ضمانات مشددة تضمن الالتزام وتنفيذ أهداف المشروع، لذلك شددت على ضرورة وجود بعض الشروط على المستفيدين من المنح. أما القروض الميسرة التي تحتاج إلى متابعة ودعم فني من ممول المشروع، فعادة ما ينظر إليها على أنها أسلم وأضمن، وتقلل من عدد الذين يتقدمون بمقترحات وأفكار مشاريع ريادية ليست لهم فعليًّا، بل إنها مجرد أفكار منقولة عن آخرين. واقترحت وجود لجان تقرر اختيار الشخص والمشروع المناسب لتلقي التمويل وإمكانية تحوله من قرض إلى منحة، أو أن يبقى قرضًا، فلا يجوز ظلم الشباب في أن نجعل الطريق أمامهم ضيقًا، فإما أن يكون رياديًّا أو عاطلًا عن العمل.
ولا بد من الإشارة هنا إلى أن الوضع قد اختلف بعد جائحة كورونا، لأن معظم الجهات الممولة أصبحت تتجه إلى الحد من التمويل سواء كمنحة غير مستردة أو في صورة قروض ميسرة. وأوضحت إحدى المشاركات أن المنح غير المستردة يمكن أن تصبح عائقًا أمام السيدات أو الجمعيات المستفيدة منها بسبب احتمال فشل المشروع. لذلك، اقترحت أن تقدم القروض ضمن آلية وشروط معينة وبنسبة مرابحة قليلة، وتقديم كفالات تضمن تسديد المبلغ ضمن المدة المحددة، ومن الممكن أن تشترط الجهة الممولة على الجهة المستفيدة تحمل نسبة من مبلغ التمويل، وتضع شروطًا جزائية في حال فشل المشروع. ولفتت إلى أن الأوضاع الاقتصادية الحالية ساهمت في إقامة مشاريع منزلية، خاصة وأن إجراءات الترخيص أصبحت أسهل من ذي قبل.
نلفت في هذا الموضع إلى أن بعض المنح أو القروض المقدمة خاصة لسيدات في المحافظات، والأغوار ومناطق العاصمة الأقل حظًّا لتمويل مشاريع هدفها الأساسي "تمكين النساء"، وهو شعار كثير الاستخدام وجاذب للممولين، غالبًا ما تحقق مشاريعهن أرباحًا متدنية بعد تسديد كل تكاليف المشروع الثابتة ، الأمر الذي ينعكس سلبًا على الرواتب أو المكافآت الزهيدة جدًا التي تتقاضاها العاملات، إضافة إلى صعوبة استدامة هذه المشاريع بسبب نوعية المنتج أو ضعف السوق المحيط، وتكلفة المواصلات، وعدم وجود منصات غير تجارية الطابع للتسويق. تكون نتيجة ما سبق أن الهدف الأساسي للتمويل والمتمثل في تمكين العاملات لم يتحقق، بل الحقيقة أنهن دخلن في حلقة مفرغة من الفشل واليأس في سوق عمل غير محمي، وتم استغلالهن لقاء أجر لا يكفي ثمنًا لمواصلاتهن، وبقيت مهاراتهن متدنية المستوى وهو ما ينسف تمامًا فكرة التمكين، والشعار الذي جعلوه ممجوجًا وفارغ المحتوى.
وفي العودة إلى هدف سؤال نقش وهو المفاضلة بين القروض التي توجب السداد، وبين المنح التي تقدم دون شرط الربح والسداد وإنما للتحفيز وبناء القدرات، وأيضًا المفاضلة بين دخول مستثمر يعظم الأمل عند الشباب أو يضغط باتجاه توسيع المشروع، لكن غالبًا ما لا ينجح معظمهم في تحمل المخاطر، فتكون النتيجة فرصة ضائعة للجميع.
وفي نظرة واقعية تحليلية لأشكال الإقراض المتبعة وتبعاتها، نجد أن القرض وإن كان ميسرًا فإن سداده يكون صعبًا على أكثرية المقترضين، وبالتالي فإن قلة من المشاريع الصغيرة تنجح، بينما المشاريع الكبيرة تخسر وتقفل أبوابها، أما بالنسبة للمنح التي لا تستوجب السداد فهي أيضًا قد أوجدت نوعًا من الاتكالية عند بعض المستفيدين منها، وإن كانت قد شجعت شريحة صغيرة من المستثمرين والرياديين الشباب على المحاولة وابتكار أفكار مشاريع جديدة. لكن الإشكالية تكمن عند "تكبير أو توسيع" المشروع لهدف تجاري مادي شخصي وهو بيعه لمستثمر أجنبي بالملايين، ونسبة ضئيلة منهم تنجح في ذلك، لكن تكون النتيجة أن صاحبها قد يحجم نهائيًّا عن التفكير في الاستثمار في مشاريع إنتاجية ذات فائدة مجتمعية ووطنية، أو تأسيسها مجددًا.
وعند الحديث عن برامج الإقراض والمنح، فمن الضروري الحديث عن رواد الأعمال أنفسهم ودعمهم لتحويل أفكارهم إلى مشاريع حقيقية مستدامة خاصة وأن مجال الريادة يكاد يكون الفرصة الوحيدة أمام الشباب مع ضيق سوق العمل، وهذا يحتم عليهم اختيار مشاريع مبتكرة والابتعاد عن تكرار مشاريع تقليدية. صحيح أن تحديات نجاح الفكرة كثيرة، لكن التوسع الكبير خصوصًا في المراحل الأولية يؤدي غالبًا إلى الفشل. وعليه، وبسبب الوضع الاقتصادي وارتفاع نسب البطالة بين الشباب خاصة، ومن أجل استدامة الأفكار والمشاريع الريادية الناشئة، وتجنبًا لمنافسة المشاريع الكبيرة لها، فينبغي توفير الدعم من القطاع الخاص والدخول في شراكات.
وتتعدد التحديات وأسباب الفشل التي تواجه الشباب الرواد، فهناك ما يتعلق بالشباب أنفسهم من حيث التزامهم بأفكارهم وتطويرها. فبسبب توفر مصادر متعددة للتمويل، يلجأ بعض الرواد الشباب أو أصحاب الأفكار الجديدة إما إلى تغيير فكرة مشروعهم لتتوافق مع القطاع الذي يدعمه التمويل، أو أن يظل يتنقل من فرصة إلى أخرى، فتكون النتيجة أن الفكرة تبقى نظرية أو تتغير، أو تنتهي مع انتهاء التمويل. إضافة إلى ما خلصت إليه إحدى المشاركات ومفاده تشبّع الرواد الشباب من برامج التدريب والمواضيع المكررة التي تقدمها لهم برامج التمويل المختلفة، فتصبح الاستفادة معدومة أو محدودة. كما أن بعض المشاريع الريادية تفشل لأن المجتمع ما زال غير مهيأ لها، فالملاحظ أن الحكومة -في تقليد لموجة في الغرب- تتجه إلى دعم تمويل مشاريع تكنولوجيا البرمجيات والتطبيقات، بينما تحتاج المؤسسات المجتمعية نفسها التي تقدم المنح والقروض وترعى مشاريع الرياديين الشباب إلى تأهيل ومعرفة في هذا النوع من المشاريع، إضافة إلى أن السياسات والتعليمات في هذا القطاع تفتقر إلى الوضوح، أو تعاني من تعقيد في الإجراءات وتعدد في الجهات، ما يعرقل أيضًا تسجيل المشاريع واستدامتها.
وأخيرًا،، يبقى الموضوع شائكًا وجدليًّا، فمن خلال دراسات لي حول موضوع الإقراض بأنواعه المختلفة وآثاره بدأ أكاديميًّا قبل أكثر من 23 عامًا، ومن متابعة إشرافية لي لمجموعة من الرياديات من النساء قبل سنوات قليلة، يمكنني القول إنني لاحظت ضعفًا حقيقيًّا في البرامج الموجهة للنساء وفعالية غالبية المشاريع الريادية، وغياب منظومة حمائية فاعلة لحفظ حقوق الملكية للمشاريع الريادية، وغياب جدي للاستدامة، وتحدي الضرائب المتجددة والمستجدة، وتعدد المرجعيات وتشتت الجهود وغياب التخصص، وغيرها من التحديات.
وفي عودة تحليلية لمثال تجربة استثمار جملون الذي يمكن أن ينطبق على حال العديد من المشاريع الناشئة وعلى طريقة تفكير بعض الرواد الشباب، فالأمر الأهم مجتمعيًّا ووطنيًّا هو أن مشروع جملون تخلى عن الهدف الأساسي له والذي جعل منه مشروعًا رياديًّا، وهو توفير وبيع الكتب للقارئ العربي بشكل واسع، إذ لم يأخذ في اعتباره عند تصميم المشروع وتوسعه مثلًا التفاوت الاقتصادي الحاد بين الدول العربية في القدرة الشرائية ونسب البطالة وكلفة الحياة، الأمر الذي جعل الاستفادة من المشروع مقتصرة على دول وفئات اجتماعية قادرة على تجاوز التكاليف المرتفعة، ذلك أن التكلفة وأجور الشحن تتفاوت بين الدول العربية. وبالتالي، فقد فشل المشروع اجتماعيًّا وثقافيًّا أيضًا، وأخفق في تحقيق هدفه المعلن في الوصول إلى أوسع نطاق من المستفيدين.
لا شك في أن خسارة مشروع جملون هي خسارة للجميع، لكنها قد تعطي درسًا للرياديين وأصحاب أفكار المشاريع بشكل عام بأن لديهم مسؤولية أخلاقية تجاه مجتمعهم ووطنهم، وأنه لا بد من أن تتمثل مساهماتهم في دورها في تحويل الاقتصاد الوطني من اقتصاد ريعي إلى اقتصاد إنتاجي يضمن استدامة، ورفاه، واستقرار المجتمع، وتوفير ضمان للأجيال القادمة وتحقيق مساهمة تنموية ذات حاجة وطنية ملحة، مع نفي كونها ترفًا بكل تأكيد.