لم تنجح المأساة
التي تعرضت لها تركيا وسوريا بالرغْم ضخامتها في صناعة الجانب الإنساني في الدولة الفرنسية،
ففي الوقت الذي تسمو فيه القيم الإنسانية وتتنحى كل الاعتبارات الأخرى نظراً لهول المصاب،
خرجت صحيفة "شارلي إيبدو" ب كاريكاتير يسخر من تركيا، وينم عن حجم العنصرية
والكراهية التي تملأ صدور من رسمها وسمح بنشرها، ويفتح الجدل مجدداً حول مفهوم حرية
التعبير الذي تتذرع به فرنسا والدول الغربية.
إن مقتل آلاف المدنيين، وأكثرهم من الأطفال والنساء
وكبار السن، نتيجة زلزال هو حدث كارثي مؤلم ينتج عنه حالة تلقائية من الألم، والتعاطف
من جميع من يمتلكون الحس الإنساني، ويتخلله تجاهل للكثير من الاعتبارات والخصومات
السياسية، ومن لا يتولد بداخله تلك المشاعر، فهذا النوع من البشر يستطيع علم النفس
تحديد نوعيتهم وتصنيفهم، التي نعلم منها على الأقل العنصرية والحقد الدفين.
موضوع الإنسانية
قد يكون فيه من الجدل ما فيه، مثلاً الصهاينة المحتلين لأرض فلسطين من جنود ومستوطنين،
وكل له دوره في ممارسة الاحتلال، جميعهم في حالة حرب مستمرة مع الشعب الفلسطيني صاحب
الحق، ولذلك لا يمكن التعاطف معهم تحت أي ظرف، بل ومن الطبيعي أن يكونوا مستهدفين ما
دام استمر احتلال أرض فلسطين فقط، وعندما ينتهي الاحتلال يوما ما، ويعودون لأوطانهم
الأصلية، فعندها تنتفي صفة الحرب معهم، بالتالي يصبح التعاطف مع مصائبهم من زلازل
تبيدهم مثلاً واجباً إنسانياً.
لسنا هنا للحديث
عن التاريخ الاستعماري لفرنسا ومدى الأجرام الذي قامت به على مدار تاريخها الأسود،
ولكن هناك حديثاً بين الحين والآخر عن تمجيد القيم الإنسانية في الدول الغربية بين
شريحة من المثقفين العرب، حصلت انطلاقاً منه فرنسا وغيرها من الدول على محامين دفاع
عرب دون رواتب لتبييض وجهها القبيح، فهل لا زال البعض يملك أسباب الدفاع عن هذه
الدول العنصرية.
من يستطيع تشريع
حقوق الحيوانات والشاذين جنسيا لا يعجز عن إقرار تشريعات تحمي الديانات الأخرى من الشاذين
فكريا، ويَمْنع الشماتة في مصائب الشعوب الأخرى، ولكن عدم قيامهم بذلك سببه الحقيقي
هو عدائيتهم لبلاد المسلمين.
إن النهضة التي
شهدتها تركيا لم تكن بالحدث السعيد للعالم الغربي وفرنسا على وجه الخصوص، واتخذوها
عدوا، وقد ظهر ذلك جليا في العديد من المواقف الرسمية بين البلدين، وأحدثها تلك البذاءة
التي خرجت بها "شارلي إيبدو".
لا نشك للحظة بأن
تركيا ستنهض من جديد، ورغم حجم المصاب الضخم، إلا أن الشعب والقيادة التركية قادرون
على النهضة من جديد، لأنها بلاد حر، وكذلك لأنهم يمتلكون كل الموارد البشرية والطبيعية
القادرة على العودة والوقوف مجددا في مقدمة الأمم.
وقد كان الرئيس
التركي واضحا في موقف الدولة التركية تجاه المنكوبين، حيث بث حديثه طاقة إيجابية كبيرة
تبشر بقدرة دولته على حسن قيادة المرحلة القادمة، وهي التي لن تكون سهلة وتحتاج للصبر
والتضحية حتى يتعافى الجميع بمشيئة الله تعالى وتكاتف الجهود.
كذلك الحال في سوريا، التي يتعرض شعبها لأقسى الظروف غير
الإنسانية، فهل يعقل أن يستمر الحصار الجائر "قيصر" على سوريا بِالرّغْمِ
من هذه الكارثة، صحيح أننا نؤمن بأن الزلزال هو إرادة من الله تعالى، ولكن تأخير
فتح معبر باب الهوى وعدم العمل على فتح أي معبر آخر، وهو ما تسبب بتأخير وصول الآليات
المساندة لإنقاذ من كان من الممكن إنقاذهم يعد جريمة لن يُسْقطها التاريخ.
سقطت الإنسانية بشكل مخزٍ حتى الآن في التعامل مع المنكوبين
السوريين، وعدم التعامل معهم في المرحلة المقبلة بنفس المستوى الذي سيتم التعامل
فيها مع المنكوبين في تركيا وتوفير ظروف الحياة لهم مجدداً هو استمرار للجريمة
المنافية لكل القيم الإنسانية، والمسؤولية في ذلك مشتركة ما بين الدول الإسلامية
والعالم الغربي.
أحيانا تأتي
الفرص من حيث لا نحتسب، وقد كان زلزال تركيا وسوريا فرصة كبيرة لدول العالم الغربي
من أجل تبييض صورتها، وفتح صفحات جديدة إن لم تكن مع القيادات فهي مع الشعوب، ولكن
أبت فرنسا ومعها السويد وغيرهما، بل إنها أمعنت في ترسيخ حقيقتها العدائية الاستعمارية
تجاه دول العالم الإسلامي تحديداً، ولذلك فلن يكون غريباً أن يقابل ذلك العداء
بعداء مقابل قد يكون أشد يوما ما، والدائرة ستدور يوما ما.