بسبب جائحة كورونا وتداعياتها السلبية بشكل خاص وما نتج عنها من أوضاع اقتصادية، ومالية صعبة وضاغطة على المواطنين والقطاعات المختلفة في الدولة، أصدرت الحكومة في 28/03/2021 أمر الدفاع رقم (28)، والقاضي بتأجيل تنفيذ قرارات حبس المدين شريطة ألا يتجاوز مجموع المبالغ المحكوم بها مئة ألف دينار، ووقف تنفيذ الأحكام الجزائية التي تقضي بعقوبة الحبس للجرائم المتعلقة بإصدار شيك لا يقابله رصيد في القضايا التي لا يتجاوز مجموع قيمة الشيكات فيها مئة ألف دينار، وقد تم تمديد العمل بأحكام أمر الدفاع رقم (28) عدة مرات كان آخرها تمديده حتى تاريخ 30/4/2023.
لكن بموجب بلاغ أصدره رئيس الوزراء بشر الخصاونة في أواخر كانون الثاني/يناير 2023، تم تعديل البند الأول من أمر الدفاع والقاضي بتأجيل تنفيذ قرارات حبس المدين شريطة أن لا يتجاوز المبلغ مئة ألف دينار ليصبح عشرين ألف دينار، وتعديل البند الثاني من أمر الدفاع ذاته والمتعلق بوقف تنفيذ الأحكام الجزائية التي تقضي بعقوبة الحبس في الجرائم المتعلقة بإصدار شيك لا يقابله رصيد في القضايا التي لا يتجاوز مجموع قيمة الشيكات فيها مئة ألف دينار، بحيث أصبحت القيمة عشرين ألف دينار.
ويجدر الذكر هنا بأن العدد الكلي للمطلوبين بقضايا الديون يزيد عن 157 ألف مدين. ولو تتبعنا الأسباب التي تدفع الأفراد للاقتراض والاستدانة سنجد أنها متعددة لكن القاسم المشترك بينها هو الأوضاع الاقتصادية المتردية، والسياسات الاقتصادية الفاشلة، ومناخ الاستثمار وقوانينه الطاردة لرأس المال والمستثمرين، ونسب البطالة المرتفعة والمتزايدة بين المواطنين وخاصة الشباب من الرجال والنساء وإن كانت مرتفعة بنسبة الضعف بين النساء، والضرائب المتصاعدة والرسوم المستجدة، وتراجع القدرة الشرائية للأفراد، وتقلص مظلة الحماية الاجتماعية للمواطن، إضافة إلى الحروب الإقليمية وعدم الاستقرار، وما ينتج عنها من أعداد متزايدة من اللاجئين، وتذبذب الأسواق والقيود عليها وحركة التجارة الخارجية.
وأظهرت دراسة أصدرتها منظمة النهضة العربية للديمقراطية والتنمية (أرض) عنوانها "ما بين الفقر والسجن: التحديات الناجمة عن الديون لدى النساء الأكثر استضعافًا في الأردن" (2019)، أن البعض وبدافع من تلبية حاجاته المعيشية، أو دفع أقساط جامعية، أو العلاج ولظروف اضطرارية، يلجأ إلى الاستدانة من عدة جهات تبدأ من الأقارب والمحيطين به، والبنوك، ومؤسسات الإقراض المنتشرة بأشكال مختلفة. وحسب القانون فإن عدم الإيفاء بالسداد يؤدي إلى المحاكمة والسجن.
أما بالنسبة للنساء المقترضات تحديدًا، فلا بد من أخذ الوضع القانوني والتعليمي والمدني والاجتماعي للسيدة المقترضة في الاعتبار، وذلك لفهم نوعية الدين المترتب عليها، وتقدير مخاطره المحتملة عليها والتي تشمل العنف والإساءة، وزيادة درجة هشاشتهن، والسجن والتنبؤ بمقدرتهن الفعلية على السداد خلال الفترة المحددة.
أما بالنسبة للمدينين من فئة الشباب، فهناك نسبة منهم تلجأ إلى الاقتراض بعد أن تقع فريسة للتشجيع الحكومي والإعلامي على الاقتراض لإنشاء مشاريع خاصة ريادية تنتشلهم من البطالة، ومن يأسهم من فعالية السياسات الحكومية التي يفترض بها أن توفر فرص عمل لهم وجديتها في ذلك، فتكون النتيجة وقوعهم في براثن القروض وعدم القدرة على السداد نتيجة تبخر آمالهم في نجاح مشاريعهم.
وحول التعديلات الأخيرة على أمر الدفاع وآثاره وجوانبه المختلفة، ناقشت عضوات "شبكة نساء النهضة" إحدى شبكات منظمة النهضة العربية (أرض)، الآثار الاجتماعية والاقتصادية، وآثارها على السلم المجتمعي إذ تقضي هذه التعديلات بتأجيل تنفيذ قرارات حبس المدين، وكذلك أثر هذه التعديلات على السيدات المقترضات والتحديات المختلفة التي قد يواجهنها، وكيفية تحقيق الموازنة ما بين حماية المدين وحفظ حقوق الدائنين.
وقد تنوعت الآراء والأفكار التي طرحتها عضوات الشبكة المشاركات في النقاش واللواتي كن في غالبيتهن من المحاميات والقانونيات، إضافة إلى مشاركة إعلامية، ومن صاحبات مؤسسات مجتمع مدني. فاعتبرت إحدى العضوات وهي إعلامية أن عدد المدينين الكبير لا يمكن المرور به مرور الكرام دون معرفة الأسباب وراءه، وما إذا كان قد تضاعف نتيجة وباء كورونا.
فيما تنوعت واتفقت آراء عضوات الشبكة من المحاميات، فقالت إحداهن إن التعديل الصادر على أمر الدفاع، والذي يعتبر استمراره والعمل به غير دستوري لانتهاء الغاية منه، أي الجائحة، وفيه تعطيل للسلطة القضائية من خلال أمر صادر عن السلطة التنفيذية، كما رأت وجود بعض المحددات المفقودة من الناحية الدستورية والقانونية، منها استغلال أوامر الدفاع لتقصير مدد مضي القانون، وعدم وجود بدائل مجدية لتحصيل الديون خاصة فيما يتعلق بالسوق والقطاع التجاري، الأمر الذي أرهق التجار وأضعف حركة التجارة. إضافة إلى انتشار وسائل غير قانونية لتحصيل الديون كالتهديد أو البلطجة، وأخيرًا، عدم نضج الرؤية الاقتصادية لبدائل حبس المدين.
لكنها أشارت إلى أن هناك بوادر لإيجاد شكل من أشكال العدالة التصالحية. وحول البيانات عن النساء المقترضات وحجم الديون التي تقع عليهن، يتبين أن أغلب الغارمات مدينات لشركات التمويل والمشاريع الصغيرة، تليها البنوك. وطرحت إحدى العضوات إمكانية القيام ببعض الإجراءات لتحفيز السداد وضمان حق الدائن بتقسيط المبالغ المستحقة بمدد طويلة، وبالإعفاء من الفوائد، وذلك بعد دراسة كل حالة لضمان عدم التحايل.
واعتبرت محامية أخرى أن عدد المدينين رقم مخيف مستشهدة بما تم ذكره من قبل مدير البرامج في المنظمة الدولية للإصلاح من حيث أن الاكتظاظ في السجون قد وصل إلى ما نسبته 170 بالمئة. لذلك، ثمة توجه لتطبيق العدالة التصالحية والتي تعني وجوب كون المدين جديًّا في دفع الالتزام المترتب عليه، وهي من الوسائل البديلة عن الحبس، فالأصل أن يتم حفظ حقوق كل من الدائن والمدين على حد سواء. لكن بناء على التعديلات، فإن الحبس مدة تتراوح ما بين ستة أيام إلى ستين يومًا لا يعطي ضمانًا للدائن بأن المدين سيدفع له ماله، عدا عن تعرض أصل الديون التي تقل عن عشرين ألف دينار للظلم بمثل هذا القرار، كما نبهت إلى فقدان الثقة خصوصًا بين التجار، ومخاوفها من زيادة ظاهرة الإتاوة، وانتشار أخد الحق باليد ما سيثير الفوضى ويهدد الأمن المجتمعي.
ونوهت محامية أخرى عضوة في الشبكة إلى أن حبس المدين موضوع شائك ذو جدل كبير، وشددت على وجوب حماية أموال الدائنين، والتفرقة بين المدين المقتدر الممتنع عن السداد والمدين الذي لا قدرة له على الدفع، وأن الحبس كعقوبة يجب أن يطبق في أضيق الحالات، فهو ليس حلًا جذريًّا للمشكلة ويجب على المشرعين والاقتصاديين البحث عن بدائل جدية لحماية حقوق الدائنين، وبخاصة ديون البنوك والمؤسسات المالية الحكومية لتنشيط الاقتصاد، وإنقاذ التجار ووضع بدائل للسداد.
وبرأيها فإن التعديلات الجديدة والاستثناءات التي وجب فيها الحبس كديون النفقة والأجور قد أُخذت من القانون المصري، لكن لم يرد صراحة نص عن المدين الممتنع والمتحايل وترك النص الأردني على إطلاقه. وأضافت أن القانون بحاجة لتعديلات أخرى تحدد المستثنيين من قرار الحبس بدقة. وختمت بأن تفاعل المجتمع والتطبيق الفعلي للقانون سيظهر الثغرات التي تحتاج إلى تعديل.
وشرحت محامية أخرى أن ما تم هو تعديل لقانون التنفيذ لسنة 2022 بما يتناسب مع قانون الدفاع. ومن أبرز التعديلات تخفيض مدة حبس المدين من تسعين يومًا إلى ستين يومًا في السنة الواحدة عن دين واحد، أما إذا ما تعددت الديون فتصبح المدة 220 يومًا. كما تم تعديل الحد الأدنى من التسوية التي تحول دون حبسه لتصبح 15% من قيمة الدين بدلًا من 25%، وتقسيم باقي المبلغ على مدة لا تقل عن 36 شهرًا. ويحق للدائن حبس مدينه دون الحاجة لإثبات مقدرته في أربع حالات: دين النفقات المحكوم بها فكل قسط يعد دينًا، والامتناع عن تسليم الصغير، ومهر الزوجة وأخيرًا إن كان التعويض ناشئًا عن جرم جزائي.
وفي رأي مجموعة من عضوات في الشبكة ممن يترأسن منظمات مجتمعية وتنموية ويدرنها فإن السجن ليس حلًا، فهناك حقوق مالية يجب تسديدها، كما اقترحن تدخل الحكومة أو المعنيين لتخفيض قيمة الدين برضا الدائن، فقد يكون هذا حافزًا للسداد، أو تقسيط المبلغ على مدد طويلة الأمد. وقد يكون المدين مفلسًا فعلًا وهنا يجب اتباع العقوبات البديلة أو تعيين جهة تنموية حقوقية تتعرف على الأوضاع الحقيقية للمدينين بدراسة كل حالة وحفظها على قاعدة بيانات مخصصة لهم. وبالنسبة للنساء المقترضات، قيجب أن يكون لدى الدولة صناديق دعم للنساء المتعثرات لحمايتهن من الحبس على غرار صندوق النفقة.
وفي تحليلنا للقرار، وجوانبه المختلفة وانعكاساته، يمكنني القول بداية إن الأساس هو أن لا تضيع حقوق الدائن والمدين. وعلى الرغم من أن هذا التخفيض قد انعكس إيجابًا على نسبة لا بأس منها من المدينين، إلا أن نسبة لا بأس بها أيضًا منهم عاجزون فعليًّا عن تسديد ديونهم. ولمّا كان قانون التنفيذ الحالي لا يسمح للمدين أن يقابل القاضي لعرض مظلوميته وظروفه إلا بعد أن يضع 15% من المبلغ المترتب عليه في صندوق المحكمة، فإن هذا يعني أن المدين من الممكن أن يسجن قبل أن ينال حقه القانوني في الاستماع له.
إن التنفيذ القضائي بعقوبة السجن للمتعسرين في السداد والبالغ عددهم عشرات الآلاف من المدينين ذو نتائج كارثية اجتماعية، واقتصادية ونفسية تطال كلا الطرفين، أي الدائن والمدين مباشرة، وتمس مباشرة أو بخلاف ذلك أفراد أسرهم ومن هم مسؤولون عنهم أسريًّا وماليًّا عندما يسجن معيل الأسرة، كما ينعكس سلبًا على السلم والأمن المجتمعي، في ظل بطالة مرتفعة ومتزايدة، وأوضاع اقتصادية منكمشة ومتباطئة ومتردية، ومشاركة اقتصادية متدنية للنساء.
ومع أننا على قناعة بانتهاء الأهداف التي استوجبت صدور قانون الدفاع هذا بانتهاء جائحة كورونا، فمن الأجدر بالحكومة ومجلس النواب المبادرة الفورية إلى إيقاف العمل بهذا القانون لما جلبه وسببه من أزمات اقتصادية واجتماعية انعكست سلبًا على المواطن وحياته وأمانه المجتمعي، والأسري والنفسي، والعمل معًا لإيجاد مجموعة من الحلول اقترحتها عضوات الشبكة هنا توفر الأمان الحقيقي للمواطن، وتحفظ حقوق الدائن وتقدم الدعم للمدين، ويضاف إليها عدة مقترحات منها: تفعيل قانون للإعسار ومساعدة المتعثرين على جدولة ديونهم، وتوفر صندوق إقراض وطني يساعد المتعثرين ويعيد إقراضهم بفوائد مخفضة وفترات سداد طويلة نسبيًّا، مع وضع ضوابط ورقابة وعقوبات صارمة مفعلة قابلة للتنفيذ على مؤسسات الإقراض غير الرسمية التي تعمل خارج مظلة البنك المركزي والتي تقدم قروضًا بنسب فوائد تفوق نسب الفوائد السائدة، وتوفير قروض تعليمية ميسرة طويلة الأمد للأهالي وللطلاب في ظل سيطرة، بل تغول، القطاع الخاص في السيطرة على التعليم، والمؤسسات التعليمية المدرسية والجامعية واحتكاره.
وفي سياق التوصيات والمقترحات، تجدر الإشارة هنا إلى نموذج ابتكرته النساء تحديدًا بوصفه حلولًا ذاتية أوجدتها الحاجة والفهم الواقعي لظروفهن وظروف مجتمعاتهن الفقيرة المهمشة خاصة المخيمات منها، وذلك بتكوين مجموعات تضامنية محدودة العدد من النساء تقوم على جمع مساهمات شهرية من العضوات، ثم إقراضها شهريًّا ودوريًّا للعضوات لتساعد عضوات المجموعة على تخطي ظرف طارئ أو تمويل مشاريع إنتاجية بسيطة فيما يعرف بـ"الجمعية"، فتجنبهن الدخول في "متاهة ومتطلبات وشروط وعواقب" الاقتراض من مؤسسات الإقراض على اختلافها.
وأخيرًا، نؤكد على أن نقطة البدء في حل مشكلة المدين ومنع تفاقمها عددًا ونوعًا هو اعتماد سياسة حكيمة متوازنة في الحل، تتفهم وتراعي ظروف المدين وأوضاعه، وتنصف الدائن مع تحييده ووضع الضوابط على جشعه، فلا "يموت الذيب ولا يفنى الغنم" كما يقول المثل العربي القديم.