رئيس التحرير : خالد خطار
آخر الأخبار

( البُغاث ) بقلم : زينب السعود

 ( البُغاث ) بقلم : زينب السعود
جوهرة العرب

زينب السعود
تربوية وناشطة في مجال التدريب اللغوي وكاتبة
************************************************************
        في كتابه المعنون بنظام التفاهة يختزل الكندي ألان دونو واقعا اجتماعيا يمكن اعتباره نتيجة حتمية لتداعيات ما بعد الحداثة التي أغرقت الفرد في النظرة الذاتية المنكفئة على (الأنا ) ، وألجمت المجتمع بقيود الاستهلاكية المادية المضطردة مع تنامي وتزايد التقدم التكنلوجي من جهة وتدني إحساس الإنسان بقيمته من جهة أخرى ، وخاصة في المجتمعات التي سيطرت عليها الفكرة الرأسمالية . وقد شرح دونو عنوان كتابه بأنه النظام الاجتماعي الذي تسيطر فيه طبقة الأشخاص التافهين على جميع مناحي الحياة وبموجبه تتلقى الرداءة التكريم والمكافأة عوضا عن العمل الجاد. يسلط الفيلسوف الكندي الضوء على حقيقة لا تغيب عن عاقل في واقعنا المعاصر وهي أن المنابر التعليمية أصبحت بعض مصادر صناعة التفاهة بما تقدمه من مناهج يربو فيه الغث على السمين ، وتهمش فيها عناصر الإبداع الحقيقي وتتزايد فيها شعارات جوفاء لا تصب في حقيقة التعليم التي من المفترض أنها أكثر الأدوات قداسة في بناء شخصية الفرد . وإذا كان الكاتب الكندي يتكلم في كتابه عن نظام التفاهة الذي لامسه وعايشه في المجتمعات الغربية المتقدمة علميا وتكنولوجيا ؟ فماذا عساه يصنع إذا تسنى له أن يطلع على بعض من تألقنا نحن الموسومين بالعالم الثالث في صناعة التفاهة وتصدير أصحابها ليكتسحوا المشهد ولتغزوا تفاهتهم بيوتنا وتتداخل مع تربية أبنائنا وتصنع وعي أجيالنا .
نظرة واحدة إلى ما يقدمه عالم التواصل الاجتماعي وبرامجه المتنوعة يدل على سوداوية الوضع وحجم المستنقع الفكري الذي تغوص الأجيال فيه . قديما قالت العرب ( إن البغاث بأرضنا يستنسر) والبغاث هو صغير الطير الذي يحاول بجناحيه الهزيلتين أن يبلغ النسر ويعتلي مكانه .فماذا يصنع أجدادنا الذين قالوا ذلك المثل إذا راوا أن البغاث استنسرت واستأسدت وانهالت علينا كما تنهال كثبان الرمل من كل صوب فأضاعت معها معالم الأشياء . البغاث تصدر واقعنا الاجتماعي وتسلط على العقول بما يعرضه من مضمون خاو من أي فكرة ناهيك عن القيمة التي لم يعد هؤلاء يعبؤون كثيرا أو قليلا بها . المهم تصاعد عداد المشاهدة والإعجاب .
قديما كان الأهل يشجعون أطفالهم على الدراسة من أجل أن يحققوا طموحهم ويصبحوا أفرادا ينعمون بمستقبل مشرق . هذا المستقبل كان يأخذ من الانسان سنوات عديدة من الدراسة والجد والتعب للوصول إليه ، في عصر التيكتوك وبرامج البث المباشر نشاهد مجموعة كبيرة من الشباب والشابات الصغار الذين قفزوا نحو المستقبل قفزة من أول السلم إلى منتصفه أو بعد المنتصف بقليل ، كوّن كثير منهم ثروات طائلة ومظاهر ترف تحيط به من كل حدب وصوب . وكثير من  هؤلاء القافزين لم يحصل على شهادة الثانوية العامة . كيف نقنع الناشئة أن العلم ما زال هو سلاح الإنسان في هذه الحياة ؟ كيف نبرر لهم نجاح البغاث وغياب النسر عن المشهد ؟ كيف نرفع من وعيهم بأن لا يساهموا في استنسار هؤلاء وأن يمسكوا أصابعهم عن الضغط على زر الإعجاب أو متابعتهم؟ كيف نقنعهم أن ما يرونه من نجاح لهذه الفئة ما هو إلا وهم لن يدوم وأن أحدهم يفكر الآن في تأليف كتاب عن ( تفاهة مشاهير التواصل الاجتماعي ) .ولعلي اقتبس من قبيلة (طيء) العربية مقولتها التي تداولتها كتب النحو القديمة ( أكلوني البراغيث ) لأقول في هذا العصر ( أكلونا التافهين ).