يحلُّ العيد الــ77 لاستقلال المملكة الأردنية الهاشمية في ظل مسيرةٍ يتعزُ بها الأردنيون والأردنيات؛ حملت لهم دولةً ناجزةً ووطناً محصّناً بمؤسساته الراسخة ومحمياً بزنود وعيون أبنائه، محصنين بثقةٍ والتفافٍ حول قيادتهم، مدفوعين بإيمانهم بهذا الحمى العربي وبأملِ الغد المشرق، الذي عبروا، في الطريق نحوه، محطاتٍ من الوحدةِ والتكاتفِ، مكلّلةً بالعطاءِ والبذلِ والتضحيات، التي ستبقى عنواناً ماثلاً في تاريخ الأردن وشعبه الوفي.
والاستقلال، الذي كان ثمرة نضالٍ قاده الهاشميون وأبناء شعبهم منذ تأسيس الإمارة وانتقالها لبناء الدولة فمملكةً ناجزةً راسخة، يأتي مناسبة عزيزة تُشكّل محطةً تاريخيةً شامخة، بما حملته من تأسيسٍ لتحرر القرار الوطني وتعزيزاً للسيادة الكاملة، لتنطلق منذ لحظتها جهودٌ متضافرةٌ للشعب الأردني، متسلحاً برؤية قيادته الحكيمة ومستنداً إلى إرث عروبي قومي جسدته قيم ومبادئ الثورة العربية الكبرى، لبناء دعائم الدولة الحديثة وتعزيز مسيرةٍ ممتدة، تغلّبوا فيها على الصعب وتجاوزا التحديات، وبقي الأردن على دربٍ الإنجاز، رغم معيقاتٍ وظروفٍ صعبةٍ، لم تجد في وجهها إلا تصميماً وإصراراً شكلته العزيمة الوطنية الصادقة.
إن النضال الوطني المشرّف والإرادة الصادقة والعزيمة الصلبة، التي حملها المغفور له بإذن الله، الملك عبدالله المؤسس -طيّب الله ثراه- كانت المرجل، الذي حمل ودعم وعزّز طمح الأردنيين والأردنيات حيال وطنٍ بذلوا الغالي والنفيس في سبيل بنائه والذود عنه ومراكمة إنجازاته وصون مسيرته، ومنطلقاً ليصبح الأردن، كما هو اليوم، وطناً حرا، سيدا وعزيزا، يحفظ كرامة كل أبنائه، وسندا قويا صلبا لقضايا أمته العربية والإسلامية.
وفي الخامس والعشرين من كل عام نحيي مناسبةً في أهميتها الوطنية والتاريخية والقيمية الوجدانية في قلوب الأسرة الأردنية الواحدة، مجددين ثوابت وقناعاتٍ وقيم وطنيةٍ لا حياد عنها، عمادها دستورٍ متقدّم، يلُفها الإيمان بالوطن، ويشحنها العزم، ويلهمها قيادةً نفاخر بها الأمم، لنجد الأردن اليوم، وفي المئوية الثانية من عمر الدولة، مصدراً للفخر لشعبه، ورمزاً للصمود لجيشه، وواحةً للأمن والاستقرار، وأنموذجاً للتقدم والازدهار، ومنارةً مشرقةً بين أشقائه، حاملاً لواء العروبة ومدافعا عن قضاياها.
وفي عهد جلالة الملك عبدالله الثاني، حامل الراية ومعزز المسيرة وقائد الإنجاز والقاسم والجامع الوطني المشترك، شكّلت ذكرى الاستقلال دافعاً لمواكبة البناء ومواصلة المسيرة والمراكمة على الإنجاز، فكانت رؤية جلالة الملك لمستقبل الأردن وشعبه ومكانته في الإقليم والعالم هي منبع كل الخطى التي سار عليها في ثلاثية "التنمية-التطوير-الإصلاح" الشاملة، والتي امتازت بالشراكة بالحوار والتوافق على المخرجات والتدرّج في التطبيق وتعميم مكتسبات التنمية على المجتمع والأفراد والمؤسسات والقطاعات المختلفة.
وتميّز ما يطرحه جلالة الملك، وتوجيهه للحكومات المتعاقبة، بأنه يمثّل رؤى متقدّمة ضمن مسيرة تحديث الدولة الأردنية، قائم على الشراكة والحوار في نموذجٍ ديمقراطيٍ أسهم في تغليب التوافق وتعزيز مساحات الحرية وصون الحقوق واحترام الرأي الآخر وفتح الأبواب أمام كل القوى السياسية والمجتمعية، فأصبحت الشراكة نهجاً والمسؤولية تشاركية والحوار أُفقٌ مفتوح لا حصر له في غرف ولا تقوقع له خلف رأي ولا استثناءٍ لفئة، فأصبح الأردن اليوم، بعد أكثر من مئة عامٍ على تأسيس دولته 77 عام على استقلاله، حاضراً فيه شبابه في الحوار وصناعة القرار، وللمرأة حظوة في قطاعاته ومؤسساته.
وحرص جلالة الملك، رأس الدولة وقائد نظامها والضامن لمسيرة التحديث فيها، أن يكون الأردن نموذجاً ديمقراطي ميزته المتفردة توافق ثنائية "الإرادة الجمعية والمصلحة الوطنية"، والتي جسدتها مقولة جلالته "النموذج الديمقراطي الذي نسعى إليه جميعاً يعبّر عن إرادةٍ سياسيةٍ ومصلحة وطنيةٍ"، فكانت مبادرات الحوار: "اللجنة التوجيهية للأجندة الوطنية 2005"، "لجنة الحوار الوطني 2011" و "الأوراق النقاشية الملكية 2012" والتي باكورة انطلاقها بعنوان "مسيرتنا نحو بناء الديمقراطية المتجددة"، لتعكس هذه المبادرات الملكية جميعها رؤية وطموح جلالة الملك لأردن المستقبل بما يلتقي مع تطلعات شعبه الوفي وطموح شبابه الواعد.
واختار جلالة الملك ضمن نهجه السياسي الحكيم ومواقفه الإصلاحية المتقدمة وتحت مظلته الجامعة لكل الأطراف والأطياف، أن يعبر الأردن إلى مئويته الثانية بمبادرةٍ تحديثيةٍ وتطويريةٍ شاملة، سياسياً واقتصادياً وإدارياً، لتطال الأبعاد المعززة للتنمية والرافدة لأذرعها، فكان تشكيل لجنة تحديث المنظومة السياسية عاكساً ومعززاً للإرادة الملكية والتصميم والعزم بأن تقود هذه الجهود لمرحلةٍ جديدة ومفصلية ضمن مسارات تحديث الدولة، ومن هذا المنطلق جاءت الضمانة الملكية لمخرجات اللجنة بشمولية ما توصلت إليه من توصياتٍ من شأنها تعزيز الحريات والحياة السياسية والحزبية والبرلمانية والتنمية المحلية.
وفي إطار التكامل والشمولية، الذي تتميز بها رؤية التحديث والتطوير، جاء التكليف الملكي بإطلاق ورشات العمل الاقتصادية الوطنية" التي احتضنها الديوان الملكي الهاشمي وبمشاركةٍ واسعة هدفت لرسم خارطة طريق اقتصادية تضمن إطلاق الإمكانيات لتحقيق النمو الشامل وتعزيز التنمية ومكتسباتها وعوائدها، وهو ما تجسّد برعاية جلالة الملك لإطلاق "رؤية التحديث الاقتصادي – إطلاق الإمكانات لبناء المستقبل".
ولم يكن الشق الإداري بعيدا عن الرؤية الملكية للتحديث والتطوير والإصلاح، جاء تأكيد جلالة الملك على ضرورة أن تترافق الإصلاحات الإدارية مع مساري الإصلاحات السياسية والاقتصادية، وهو ما يستهدف بالأساس خدمة المواطن الأردني والارتقاء بأداء مؤسسات الدولة وتعزيز مسيرة التنمية الشاملة.
إن الإصلاح والتحديث والتطوير، هي ميزة الدولة الأردنية في عيد استقلالها الـ77 ومئويتها الثانية، وهي ما جعلت هذا الاستقلال ناجزاً مبنياً على مرتكزات أساسية في مسيرة النهضة والبناء والإنجاز في تاريخ الأردن العزيز، ما يعني لنا أردنيين وأردنيين، يحتضننا وطنٌ لا مثيل له وتجمعنا قواسم لا تقوى عليها ظرف، أن نبقي عوامل ودوافع الأمل والعزم والتصميم والعمل قواسماً تجمعنا وتدفعنا لتعزيز وحدتنا الوطنية والتفافنا حول قيادةٍ امتلكت شرعيةً دينية وتاريخية وحملت رسالةً مقدسة، لنمضي نحو مستقبلٍ واعد، ومزيد مما يستحق الأردن وشعبه الأغر وتراه قيادته الهاشمية المظفّرة.
وإلى جانب جلالة الملك، في هذا المسيرة الممتدة بالخير والرفعة، يقود سمو الأمير الحسين بن عبدالله الثاني ولي العهد زمام العديد من الجهود والمبادرات، التي من شأنها رفد المسيرة الوطنية وتعزيز آفاقها بأفكار الشباب وريادتهم وعيونهم الطموحة باعتبارهم عماد المستقبل وبناة الغد، يمضي بينهم ومعهم سمو ولي العهد أوقات منتجة ويتبادل وإياهم أفكاراً وحوارات خلّاقة ويشاركهم في تنفيذ مبادراتٍ وبرامج عملية ستكون نتاجها ثمار تصب في بوتقة التنمية الوطنية ورافداً لها.
وفي عمقه العربي وحاضنته الإقليمية، فإن الأردن لطالما كانت القضايا العربية وتحقيق الوفاق وتعزيز التعاون البيني لازمةً عقائديةً وأولويةً راسخةً في سياسته الخارجية، وعلاقاته مع جواره العربي. وبذل الأردن، قيادةً سياسيةً ومؤسسات الدولة، مع دول عربية شقيقة في السياق الثنائي من جهة والتعاون متعدد الأطراف من جهةٍ أخرى في سبيل الوصول إلى نماذج تعاون مشترك، في عديد المجالات، تبني على القواسم المشتركة والمزايا التنافسية وتحقق التكامل وتبادل المنفعة.
ومن هذا المنطلق، وإيماناً بمكانتها في العمق العربي ووزنها الإقليمي، جاءت مصر في ثقلها السياسي ودورها المحوري وقربها الجغرافي للأردن وتطابق المواقف والرؤى معها وتكاتف المساعي المشتركة، لتكون الثنائي العربي الذي جمعه مع الأردن أطر تعاونٍ وأوجه تنسيق ومجالات تبادل متّنت العلاقات الأخوية لتكون أنموذجاً للعلاقات العربية، وهي علاقة استراتيجية لم تكن الظروف والتحديات والمتغيرات الإقليمية والدولية عائقاً لها، بل دافعاً لتعزيزها.
وبالتأكيد فإن ميزة العلاقات التي تجمع الأردن ومصر يمكن تشبيهها بالمعادلة الطردية مع الأزمات، فكلما زادت حدة الظروف والأزمات التي تشهدها المنطقة زاد مستوى التقارب والتنسيق الأردني المصري، لقناعة القيادتين الحكيمتين فيهما؛ جلالة الملك عبدالله الثاني وأخيه فخامة الرئيس عبدالفتاح السيسي، أن التنسيق المستمر دربٌ للتقارب، وفي التقارب يتمتن التوافق وبما ينعكس على القوة والقدرة الجمعية للدول العربية في مواجهة مختلف الظروف والتحديات.
ولعل مصر والأردن اليوم، وبتوجيه من قيادتيهما، يقودان عبر المؤسسات السياسية والاقتصادية والإعلامية، نماذج مشتركة في العمل العربي متعدد الأطراف، سواء على الصعيد السياسي والدبلوماسي فيما يخص القضية الفلسطينية فضلاً عن دور البلدين تحت مظلة جامعة الدول العربية، أو في المجال الاقتصادي في نماذج تعاون وتكامل ثلاثي مع العراق تم توسيع إطاره ليشمل دولاً عربية أخرى في مجالات الصناعة والطاقة، أو في المجال الإعلامي في خدمة الوعي العربي وإبراز القضايا العربية والدفاع عنها إعلامياً.
وسيبقى الأردن، كما هم أشقاؤه العرب، حريصاً على المنعة العربية وتحقيق الوفاق العربي، ويضع قضايا أمته على أولويات سياسته الخارجية ومساراته الدبلوماسية، مستندا إلى إرث الثورة العربية الكبرى ومبادئها والقيم التي قامت عليها الدولة الأردنية، التي دخلت عامها الثاني بعد المئة متسلحةً برصيدٍ متين من الإنجازات ومسيرةٍ ماثلةٍ عمادها الإنسان الأردني، الذي تحمل الدولة نحو فلسفة الحكم الهاشمي بأن "الإنسان أغلى ما نملك".