الكاتب عبد الله الزعبي من الأردن الجميل قدم للمكتبة العربية وقراء القصة مجموعة قصصية تحت عنوان "يحكى أني" في 140 صفحة من القطع المتوسط، وبغلاف ملفت للنظر عبارة عن عدد كبير من الأيدي العارية تعمل على كشف فوهة حفرة عن وجه لرجل، وكأن مصمم الغلاف الذي لم يظهر اسمه أراد أن يرمز أن القصص بين جنبات الكتاب تسعى لكشف المستور والمخفي، والغلاف الأخير مقولات عن الكتاب بقلم القاص مع صورته، حيث احتوى الكتاب على اثنتين وعشرين قصة حملت كل منها عنوانا يدلل على محتواها وفكرتها، وصدر الكتاب عن جفرا ناشرون وموزعون في الأردن، وفي الصفحة الخامسة من الكتاب نجد الكاتب وضع العبارة التالية: "يحكى أني.. موجود في العدم.. عبرت بجسدي لأراكم، ثم ارتحلت، أنا ماض في خلودي.. وهذه بصمتي"، وفي الصفحات العاشرة والحادية عشر تكلم عن الكتاب موجها حديثه للقارئ كي يستثير رغبته لكي يقرأ، قبل أن ينتقل للإهداء المطول وأهم فقرة فيه "إلى تلك القابعة في فلسطين المحتلة، رغم حتمية الرحيل... سنلتقي هناك"، وقبل أن ينقلنا القاص الى فضاءت قصصه وفي الصفحة الثالثة عشرة أورد تنويها مهما قال فيه: "جميع الشخوص في يحكى أني حقيقية، منها من قضى نحبه ومنها لا زال على قيد الحياة، وجاءت الأسماء وهمية احتراما لخصوصية هذه الشخوص".
القصة كأدب لها تاريخ طويل وان تغيرت اشكالها فهناك القصة الطويلة والمتوسطة والقصيرة حتى وصلنا الى القصة القصيرة جدا، ورغم أن البعض روج لموت القصة مع انتشار الرواية إلا أنها أثبتت أنها عصية على الموت، وما زلت استمتع بقراءة المجموعات القصصية أكثر من الروايات، وأجد دوما أن صياغة عدد من القصص في المجموعة القصصية يعني أن هناك شخصية رئيسة وأحيانا شخصيات ثانوية في كل قصة وبداية ونهاية ومكان وزمان وحبكة قصصية، بينما الرواية تمتلك شخصية رئيسة واحدة وعدد من الشخصيات الثانوية حسب دورها اضافة للبداية والنهاية والمكان والزمان وحبكة السرد الروائي، فمن هنا نجد أننا في القصص في عوالم وفضاءات مختلفة بين قصة وقصة، وهذا يثيرني للبحث عن الهدف والفكرة المشتركة فيها.
في المجموعة القصصية "يحكى أني" نجد أن القصص أخذت مساحات مختلفة من حيث الطول وعدد الصفحات التي تجاوزت سبع صفحات في بعضها، ولكنها حملت مجموعة من المحاور كانت خلف القصص ومن هذه المحاور الرئيسة:
محور ذاكرة المكان والزمان: ونلاحظ ذلك في القصة الأولى والتي حملت عنوان "ذاكرة أنف" حيث أن القاص بقصته يعتبر أنه "للأنف ذاكرة تغذيها المشاعر كما تغذيها حاسة الشم"، وهذه القصة أقرب للسيرة الذاتية بأسلوب سرد قصصي تعود للطفولة وتستمر حتى المشيب، والراوي للقصة يرى أن الناس كلما ضاقت بها السبل "واشتدت حلكة الأيام" تهرب دوما للطفولة من خلال ذاكرة الأنف، وهذا المحور يبرز في غالبية القصص بجوار المحاور الأخرى وإن كان بنسب متفاوتة.
محور قضايا مجتمعية: كما ورد في قصة "ذاكرة أنف" حيث سطوة الأخ على الأخوات، واعتبار حضور فيلم لعبد الحليم حافظ في تلك الفترة والمجتمع "مفسدة لأخلاق البنات والأولاد على حد سواء"، بينما في قصته "ثقوب" نراه يتحدث بعد مقدمة سردية عن معاناة اللاجئين في استلام التموين من وكالة الغوث، مضافا لهذه المعاناة لصوص يسرقون ممن يغفل عن حصته قليلا بعض مما استلمه من تموين بعد معاناة طويلة، إضافة لاستغلال التجار للاجئين وظروفهم وتبخيس الاسعار حين الشراء منهم، كما أشار لسلوكيات مجتمعية لدى أطفال الحارات بممارسة الأذى للغير كما في قصة "حلمي الهبيلة" وإن كان هذا النص أقرب لفن الحكاية منه الى القصة، وأيضا قصة "مدرقة أمي" حيث اشار الكاتب في قصة متميزة امتلكت مواصفات القصة لظروف الناس الاجتماعية والاقتصادية والعلاقة مع الأم والإبنة.
أيضا واصل في قصته "جاري سعيد" الإشارة لبعض القضايا الاجتماعية وإن أنهاها برمزية مقصودة، وكذلك أشار للرشوة والفقر في قصة "بائع وطن"، وكذلك في قصة "الرجل صاحب المؤخرة الكاوتشوك" بضرورة أن نرى ما أنعم الله علينا مقارنة بغيرنا بدلا من الشكوى، وفي قصة "الغيرة" تناول هذه المسألة الاجتماعية، وفي قصة "زركوش" تناول مشاكل وسط البلد وزعران منطقة سينما الحمراء وجسر الحمام، وكذلك قصة "كيف أجيت على الدنيا" وقد سلطت الضوء على هذا التساؤل لدى الأطفال، وإن كان مأخذي على القصة أنها كتبت باللهجة المحكية، ومن القصص الجميلة والمكثفة قصة "غميضة" والتي لخصت الحياة وهي تصنف من القصة القصيرة جدا والوحيدة بالمجموعة من هذا التصنيف، وفي قصة "الطبال" وهي قصة متينة وطويلة وآخر قصة بالمجموعة فقد كانت ختامها مسك حيث عالجت الرغبة والطموح والهواية في ظل مجتمع لا يرحم.
محور الوطن: وهذا ما نراه بقوة في قصة "رؤوس يابسة" حيث تتحدث القصة عن شخصيتين جد الراوي أبو صقر عقيد بلدة علان والثاني حمدان عقيد بلدة زي والبلدتان من قرى السلط في الأردن، وقد اندفع الاثنان مع رجال البلدتين للقتال في معركة الكرامة ضد قوات الاحتلال الصهيوني حيث قاتل الجندي بجوار الفدائي بجوار المواطن والحقوا أول هزيمة بجيش الاحتلال، واستشهد حمدان ومات أبو صقر في نفس الليلة بعد رؤية لأم صقر رأت فيها حمدان الذي لم يتزوج في حياته متزوجا ولديه اولاد بالجنة، ولعب خيال الكاتب دوره الجيد لإضافة الرمزية على القصة وخاصة في نهايتها حين نظر الراوي من قمة بلدة زي إلى غرب النهر حيث الوطن المحتل فرأى شاهد قبر مكتوب عليه: "الكرامة.. قبضت مع أبو صقر، واستشهدت مع حمدان"، وشرق النهر قبر مكتوب عليه: "عربي حي، رأسه يابس" وهذه رمزية لوحدة الأرض والشعب شرق النهر وغربيه، وأن العربي لن يستسلم ويبقى حيا بقضيته الفلسطينية رغم أنف الأعداء والمستسلمين.
ونجد محور الوطن في قصة "قديستي.. قدس" حيث الرمزية العالية بين القدس التي باركها الله وقدس الابنة، حيث يتجلى محور الوطن بالعبارات التالية: "قديستي البكر أسميتها قدس، كتلك المدينة الطاهرة العذراء الرافضة لتعدد الأزواج"، ويقول أيضا: "لا تريد إلا فارسا واحدا ملثم على صهوة جواده المجنح، يحمل في جوفه آلاف الجنود يدافعون عنها وعن بكارتها"، وينهي النص بالقول: "وهي كما القدس، شهيتها قوية، وطعامها شهداء"، وفي هذه القصة نجد كم من التشابيه والصور واللوحات الفنية المنتقاة من مشاعر كبيرة، بينما في قصته: "يا فرج علمني أبي" نجد أن السرد تغلب على القصة بحيث أفقدها خصائصها رغم جمالية الفكرة فيها والانتماء للوطن حيث نجد القاص يقول على لسان الابن المولود حديثا وما زال في الخداج: "علمني يا ابتي كيف استرد دينا لوطني"، ويقول الراوي للقصة عن والده: "علمني أن بلدة كانت آمنة تسمى جنين تشبه تماما ماحص والفحيص وعلان ورميمين"، وهنا نجد أن الكاتب أكد على وحدة الأرض والشعب شرقي النهر وغربيه كما هو الواقع عبر التاريخ.
في قصة "مريم نوارة يافا" مازج العلاقات الاجتماعية في الأردن بين اللاجئين الفلسطينيين وأبناء الاردن، واعتمد على توثيق بعض من تاريخ المجازر بحق ابناء فلسطين ورجولة ابناء فلسطين في مواجهة المحتل البريطاني، ولكن لفت نظري عبارة بالقصة تقول: "صحن الفول الذي لم يكن مطروقا بكثرة على سُفر العائلات في فلسطين"، ولا أعرف الأساس الذي استند اليه القاص بذلك، فمن المعروف أن نسبة كبيرة من سكان الساحل الفلسطيني وخاصة في قرى يافا يطلق عليهم لقب "الفتوح" ومعظمهم من الذي اتوا من مصر عبر مراحل تاريخية، وأدخلوا الى فلسطين وجبات وعادات متوارثة في مصر منذ زمن طويل ومنها وجبات المفتول والفول بالزيت أو المدمس والمسقعة والفسيخ المالح والفسيخ المدخن، اضافة لخميس البيض وغيره من أعياد ومناسبات منها الإفطار صباح عيد الفطر على الفسيخ المالح.
الوطن كان الغالب على محاور القصص في الكتاب ومنها تلك القصة التي أسماها "سوق الحرامية" وهو مكان على سقف السيل في عمَّان ومثله في العديد من المدن العربية، والقصة اعتمدت على فكرة أحيطت بخيال الكاتب، فأخرجها القاص بقصة جميلة ينهيها بالقول عن الوطن: "وها هو ذا يباع ويشترى في سوق للصوص"، وكذلك في قصته الرمزية "لم يترجل"، وفي قصته الجميلة والمعبرة "الحرية.
بعد قراءة دقيقة مرتين لهذه المجموعة القصصية التي أمتعتني أستطيع أن أقول أن هناك قاصا جيدا سيبرز في الأردن وإن كان يحتاج أن يتعب على نفسه أكثر، ومن الملاحظات على هذه المجموعة القصصية الجميلة وخاصة أنها المجموعة القصصية الأولى للكاتب، أجد أن مستوى الفكرة والقصص جميل وجيد والقدرات اللغوية جيدة وإن أخذت نسبة من القصص طابع السيرة الذاتية، لكن في بعض القصص نجد أن السرد يكون طاغيا، علما أن السرد من سمات الرواية والتكثيف اللغوي من مزايا القصة، إضافة للتأرجح بين اسلوب الخاطرة وأسلوب القصة وأسلوب الحكاية، فالقصة تتميز بأن لها مقدمة وذروة ونهاية سواء مغلقة أو مفتوحة، بينما الخاطرة هي بعض من التفريغ الوجداني بأسلوب شبيه بالقص ولكن بدون مزايا القصة، وهذا ما نلاحظه في قصة "غيرة" والتي افتقدت عناصر القصة ومازجت بين المقال والخاطرة، وهذا ما رأيته أيضا في قصة "الوجود" والتي قامت على فكرة فلسفية، وأيضا بقصة "لا تكون الأشياء كما تبدو" وقد لاحظت أن نسبة لا بأس بها تنتهي بنصائح أو توجيهات أو حكم وهذا ليس من أسس القصة، ولكنه أسلوب يستخدم بالحكايات.
أيضا أرى الكاتب يلجأ أحيانا للسجع كما في قصة "جاري سعيد" وهو أسلوب غير مرغوب بالخطابة فكيف بقصة قصيرة؟ إضافة لاستخدامة كلمة "سيجارة" وهي كلمة انجليزية ومقابلها بالعربية لفافة تبغ، ونرى القاص يلجأ لاستخدام اللهجات المحكية والعامية، وأنا ارى أن ذلك يضعف من الحبكة القصصية للقصة، وأعتقد أنه إن كان لا بد من استخدام بعض الكلمات فيجب وضعها بين أقواس، علما أن القاص في ملاحظة بين قوسين في ص 41 يصر أن يسمي اللكنات واللهجات المختلفة بين منطقة وأخرى في فلسطين وخارجها بأنها لغات ويقول: "أنها فعلا لغات" وهذا الإصرار على مخالفة المنطق العالمي في كل اللغات التي تميز بين اللهجات واللكنات وبين اللغة أمر غريب، مع ملاحظة أن قواعد وأسس اللغة العربية قائمة على الفصحى وهي لغة القرآن، والقرآن الكريم لم يأتِ به لا لهجات ولا لكنات ولا كلمات عامية أو محكية، مع ملاحظة أنه في هامش ص 63 قال عبارة بدأها بالقول: "باللهجة الأردنية" فكيف تكون الخليلية واللداوية وغيرها لغات بينما الأردنية لهجة؟ علما أن هناك قصة كتبت باللهجة المحكية بالكامل وأخرى اختلطت المحكية العامية بالفصحى.