عندما استمعت إلى محاضرة الأستاذ الدكتور محمد وهيب الحسين أستاذ عِلم الآثار والتراث في كلية الملكة رانيا للسياحة والتراث في الجامعة الهاشمية عن معركة اليرموك جارة بلدتي ملكا، وأيضاً جارة سحم وبلدات وقرى الكفارات الأخرى، جعلني هذا العالِم الأردني الفذ أن أتخيّل كيف تجحفل الجيش الإسلامي الذي سار حوالي (1100) كيلومتر على الجِمال والخيل ومشياً على الأقدام من المدينة المنورة على أرض المملكة العربية السعودية حتى وصل إلى منطقة (الجحافل) في ملكا التي تبعد حوالي (23) كيلو متراً عن إربد، وحوالي (120) كيلومتراً عن العاصمة عمّان. حيث تجحفل في ملكا الجيش الإسلامي الذي لم يزد عدد مقاتليه على (40) ألفاً، وبعض الروايات تحدثت عن (36) ألف مقاتل فقط، فيما بلغ عدد المقاتلين في جيش الروم حوالي (240) ألف مقاتل، أي ما يعادل ستة أضعاف أو يزيد عن عدد مقاتلي الجيش الإسلامي.
وكلّ من استمع معي لمحاضرة الدكتور محمد وهيب الحسين عن معركة اليرموك بمن فيهم رئيس هيئة الأركان المشتركة الأسبق الجنرال محمد يوسف الملكاوي (عميد وشيخ الملكاوية) حيث عادت بنا الذاكرة حوالي (1329) عاماً إلى الوراء، أي إلى عام 15 هجري الذي وقعت فيه المعركة، فشعرنا بأن مركبة الزمن (The Machine Time) قد جعلتنا نُحلّق عالياً لنرى أرض معركة اليرموك وما يحيط بها خاصة في منطقة الجحافل في ملكا، فها نحن نرى أحد الجنود المسلمين يسنّ ويشحذ سيفه ليكون قاطعاً، وآخر يسنّ ويشحذ رمحه ليكون قاتلاً، وثالث يتدرب مع زميل له على كيف صد السهام، ورابع لا يبتسم وقد وضع عِصابة خضراء على رأسه وهو يحمل رمحاً، يرجو الله أن يسدده إلى صدر (هِرقل) قائد جيش الروم، وجندي آخر يداعب فرسه التي شاركت معه في بعض غزوات الرسول صلّ الله عليه وسلّم، استعداداً للمعركة، فيما جلس أحد الجنود مع بعض رِفاقه يستريحون على صخرة ملكاوية، وهو يأكل حبات تمرٍ أحضرها معه من المنزل، ليستقوي بها على ساعاتٍ معركة قادمة ستكون حُبلى بالمفاجآت بين كَرِّ وفَرِّ، والالاف غيرهم من الجنود المسلمين الذين انشغل كلّ واحدٍ فيهم بعمله تحضيراً للمعركة.
وكانت عيون الذين حضروا المحاضرة في (ديوان الملكاوية بعمّان) يترقبون شيئاً فشيئاً عن تفاصيل أحداث المعركة التي يستمعوا لها لأول مرّة، وكأن الدكتور محمد وهيب الحسين يشاهد أحداثها أولاً بأولٍ بواسطة طائرة مُسيّرة (درون) وينقل لنا عبرها عبارات تكبير الجنود وهم يغيروا على فرسان جيش الروم، كما كمان يروي لنا أصوات صليل السيوف وصهيل الخيل وأنفاس مقاتلي جيش المسلمين، من على أعالي قِمم جبال ملكا والقرى المحيطة بها مثل سحم وكفرسوم وحرثا وعقربا وغيرها من بلدات الكفارات، ويروي لنا أيضاً كيف يوجه قائد المعركة خالد بن الوليد قادة الكتائب والسرايا في المقدمة والميمنة والميسرة والوسط والمؤخرة، من على التلّة المعروفة اليوم باسم (تلّة خالد) نسبة إلى خالد بن الوليد.
وفجأة وبدون سابق إنذار عبس وجه الدكتور محمد وهيب الحسين وهو يتحدث عن تطويق جيش الروم لجيش المسلمين من كافة الجهات، في منطقة معروفة على ضفاف نهر اليرموك تسمّى منطقة (الحشرة)، أي المنطقة التي حشر فيها جيش الروم جيش المُسلمين، حيث ضافت الأرض بما رحُبت على حوالي (35) ألف جندي مُسلمٍ، ولم يعودوا يروا غير جيش الأعداء يحيط بهم من كلّ حدبٍ وصوبٍ، لكنّهم حافظوا على رباطة جأشهم، واستمروا يقاتلوا في كل الاتجاهات، مُستذكرين غزواتهم مع الرسول الكريم صلّ الله عليه وسلّم في "بدر وأحد والخندق وحُنين وفتح مكّة" التي زادتهم جميعاً إيماناً وعزيمة وبأساً شديداً على الأعداء، في القتال، لا يبتغون إلا إحدى الحُسنيين، النصر أو الشهادة.
وفي تلك الأثناء شديدة القسوة (كما وصفها الدكتور محمد وهيب الحسين) كان قد بزغ فجر الفرج، حيث نادى القائد المُسلم عِكرمة بن أبي جهل في نفر من المُسلمين، وصاح بأعلى صوته: (من يُعاهدني على الموت في سبيل الله) فتقدم نحوه (500) مقاتلٍ، وقاموا بعملية بطولية انتحارية استطاعوا من خلالها كسر طوق جيش الروم على الجيش الإسلامي، في هجومٍ ملحميٍ مضادٍ أريقت فيه دماء الشهداء دفاعاً عن الإسلام والمُسلمين، وعن الحق والسلام والعدل والعدالة، واستطاع عِكرمة مع هؤلاء النفر القليل من الجيش الإسلامي أن يقتلوا المئات من الأعداء وأن يفرّ الآلاف، حتى تمكنوا من تحرير الجيش الإسلامي من الطوق الذي فرضه عليه حوالي (240) ألف مقاتل من جيش الروم من كل الاتجاهات، في منطقة تُسمّى (المجنونة) على ضفاف نهر اليرموك، لأن هؤلاء الجنود تصرّفوا بطريقة أشبه بالجنون، لتحقيق هدفٍ واحدٍ، وهو إنقاذ الجيش الإسلامي من الطوق القاتل، حتى لو استشهدوا جميعاً، في سبيل مصلحة الإسلام والمُسلمين، فكان لهم ما أرادوا.
ولاحظتُ من على بُعدٍ كيف أن الأستاذ الدكتور فتحي الملكاوي (المدير الإقليمي للمعهد العالمي للفكر الإسلامي) الذي أدار المُحاضرة قد تنفّس الصعداء من كلام الدكتور محمد وهيب الحسين، وهو يستمع للتفاصيل الدقيقة لأحداث المعركة، وكيفما بدأت كفّة المعركة تميل لمصلحة الجيش الإسلامي رويداً رويداً، حيث دب الذُعرُ والخوف في قلوب الجنود الرومان الذين بدأوا بالفِرار مع قادة سراياهم وكتائبهم وانتصر الجيش الإسلامي في نصّرٍ مؤزرٍ وكسر شوكة الرومان، وقال عنه هرقل ملك الروم قوله المشهور: (الوداع يا سوريا ... وداعاً لا لِقاء بعده)، فكانت الأرض الأردنية مثلما هي أراضي بلدة ملكا التي تجحفل فيها الجيش الإسلامي وبلدات سحم وكفرسوم وحرثا وسائر قرى الكفارات هي عاصمة النصر الإسلامية لتحرير كل سوريا ولبنان وفلسطين، وطرد الرومان وتطهير أراضي سوريا الطبيعية وسكانها من الظلم والاستعباد الروماني.
وبعد تلك المحاضرة أدركت بأن أراضي وفضاءات بلدة ملكا وسحم الكفارات وسائر بلدات وقرى الكفارات ومياه نهر اليرموك هي الشاهد على عظمة الدولة الأردنية، التي تضم أضرحة الصحابة رضوان الله عليه، الذين جاؤوا للأرض الأردنية حاملين رسالة الإسلام الوسطي والمعتدل، وهزموا الأعداء في معارك مؤتة واليرموك وحِطين وعين جالوت، مثلما هزم الجنود الأردنيون على هذه الأرض الأردنية المباركة الأعداء الإسرائيليين في معركة الكرامة عام 1968، وقبلها عندما خاضوا معارك شرفٍ وبطولة في اللطرون وباب الواد والنوتردام وتلّة الرادار ضد العصابات اليهودية والجيش الإسرائيلي، وكذلك في معارك أسوار القدس دفاعاً عن الأقصى وفلسطين، مثلما ساهم جنودنا الأردنيون البواسل أيضاً في انتصارات معركة تشرين / رمضان عام 1973 في هضبة الجولان، التي سنتفيأ ظلال انتصاراتها بعد أسابيع قليلة.
وأجمل ما أراح قلبي وقلوب الحضور عندما نفى الدكتور محمد وهيب الحسين أن يكون اسم (ملكا) هو نسبة إلى ملكة رومانية كانت تحكم المنطقة، حيث أوضح بأن (ملكا) كانت (ملقى – أي ملتقى) الجيوش الإسلامية قبل معركة اليرموك، ولكن تم تحوير الاسم لاحقاً إلى اسم (ملكا). وأشار أيضاً إلى أن بلدة (المنصورة) التي كانت في يوم من الأيام أحد أحياء بلدة (ملكا)، سميت بهذا الاسم نسبة لانتصار الجيش الإسلامي في معركة اليرموك، فهي منصورة بإذن الله كما قال، لأنها تقع قرب بلدة (أم قيس) التاريخية السياحية، التي لجأ إليها السيد المسيح عيسى بن مريم عليه السلام، والتي لا تبعد كثيراً أفقياً عن موقع مغطس السيد المسيح عليه السلام في غور الأردن قرب البحر الميّت. كما أن منطقة (سيفين) التابعة أيضاً لـ (ملكا) سمّيت نسبة إلى سيفي القائد خالد بن الوليد.
وفي تفاصيل حديثه قال الدكتور محمد وهيب الحسين الذي سبق وعمل عميداً لكلية الملكة رانيا للسياحة والتراث في الجامعة الهاشمية بأن بلدة (ملكا) التي تحيط بها (11) قرية وتجمّعاً سكانياً، تقع على سلسلة آثار وحضارة قديمة، وفي ذات الوقت لديها إرثاً معاصراً حيث بُني أول مسجد فيها وهو مسجد الشيخ عبدالقادر الجيلاني عام 1910، وتم فيها أيضاً تأسيس أول مدرسة في المنطقة وهي مدرسة ملكا الأميرية.
ولفت على أن كلية الملكة رانيا للسياحة والتراث تهتم كثيراً بالتاريخ والإرث في بلدة ملكا والبلدات المجاورة لها، وتتجه النية لتأسيس مركز زوّار ملكا عند مدخل البلدة، لافتاً إلى أن بلدة أم قيس ضمّت قديماً أول جامعة أُنشأت في العالم، فيما تضم بلدة سحم الكفارات السبيل الإسلامي الوحيد في العالم أيضاً.
وقبل أن يختتم الأستاذ الدكتور محمد وهيب الحسين حديثه، أكد بأن لواء بني كنانة / لواء الثقافة الأردنية لعام 2023 يمتلك مساراً حضارياً وثقافياً، ويجب تسليط الضوء عليه.
وبعد أن اختتم الدكتور محمد وهيب محاضرته وتكريمه من قِبل الجنرال محمد يوسف الملكاوي (عميد وشيخ الملكاوية) / رئيس هيئة الأركان الأسبق والمستشار في الديون الملكي وعضو مجلس الأعيان سابقاً شعرت كــــــــ (ملكاوي – أردني) بأن هذه الدولة العريقة (المملكة الأردنية الهاشمية)، هي امتداد للتاريخ والإرث المسيحي والإسلامي العريق، وأرض النبوات التي تطهّرت بموسى وعيسى ومحمدٍ صلوات الله وسلامه عليهم، مثلما هي أيضاً إرث الصحابة الكِرام رضوان الله عليهم، وهي تستحق منّا أن نحمي هذا الإرث العظيم وهذه الحضارة الضاربة جذورها في التاريخ بأرواحنا، لأن أجدادنا الأوائل (الأنباط) شيّدوا حضارتهم في الصخر، والبترا في أقصى جنوب الأردن، تشهد على ذلك؛ حيث نحتوها بالصخر، وغرسوا فينا جينات (النشامى) التي نفخر بها هذا اليوم، والتي تطاول بعلياءٍ قِمم جبال البلقاء والشراة ومكاور ونبو وعجلون، مثلما تعتز بعطر وعبق نسائم سهول إربد وسنديان جرش والكرك والطفيلة والشوبك، وأريج المفرق وأم الجمال، وبوادي الأردن الجنوبية والوسطى والشمالية، وثغر الأردن الباسم على شاطئ البحر الأحمر، الذي يعانق وسط الأردن في فيلادلفيا وعموّن وسيل الحوريات وجبل القلعة في عمّان.