عمان- بتراجع الأردن ليصبح من أسوأ 7 دول عالمياً في مستوى التعليم، وفق ما كشفته نتائج اختبار برنامج التقييم الدولي للطلبة "بيزا" العام الماضي 2023، وما أثاره التقرير الاستقصائي الأخير الذي أعدته الصحافية حنان خندقجي، وبثته قناة المملكة بعنوان (قيد التحقيق) حول حصول طلبة (توجيهي) أردنيين على شهادات دراسية على غير استحقاق من تركيا، مما استوجب التساؤلات والاستيضاحات حول مستقبل المنظومة التعليمية في المملكة، وانعكاساتها الخطيرة على المنظومات الاجتماعية والاقتصادية والأمنية، وحتى السياسية.
تباعاً لهذه الظواهر والمؤشرات المتعددة التي باتت حقيقة مرئية في مجمل تقارير الأداء التي تمس المنظومة التعليمية في الأردن والمنطقة العربية بشكل عام، طرحت عضوات شبكة نساء النهضة إحدى شبكات منظمة النهضة العربية للديمقراطية والتنمية (أرض)، نقاشات وآراء متباينة بشأن التعليم الأردني، ومشكلة "التوجيهي"، وما يوجه له من انتقادات مجتمعية واسعة، ومستقبل الأجيال الصاعدة، خاصة في ظل كل هذا التدهور بمؤشرات النمو الأخرى والبطالة ومستويات الفقر ومعدلات الجريمة والأداء المهني للقطاعات الاقتصادية، وما تعانيه من ضعف في الكوادر البشرية والخبرات المؤسسية المفقودة في مجالات متعددة.
التراجع الصادم هو الذي كشفه تقييم "بيزا" في أداء طلبة الأردن خلال دورة 2022، وترتيب الأردن عالمياً في هذا التقرير، فإنه يعتمد- بحسب خبراء- على هذا التصنيف العالي في الاختبار لقياس فرص النجاح الاقتصادي في الدول الخاضعة له، إذ استنتج الباحثون أن الاختبار هو أحد المؤشرات التي تُظهر مدى استعداد أنظمة التعليم لتأهيل الطلاب للاقتصاد العالمي.
وفي هذا التقرير جاءت الأردن بالترتيب السابع ضمن العشر دول الأدنى درجة في نتائج التقييم لعام 2022، وهذه الدول هي: "كمبوديا، جمهورية الدومينيكان، كوسوفو، أوزبكستان، الفلبين، المغرب ، الأردن، السلفادور، باراغواي، وفلسطين". فيما جاءت كمبوديا بالمركز الأدنى بدرجة تبلغ 337 نقطة، وجمهورية الدومينيكان بالمركز الثاني بدرجة 350، وكوسوفو بدرجة 351، ثم أوزبكستان بدرجة 352، وسجلت الفلبين درجة 353، تليها المغرب بدرجة 356، و الأردن بدرجة 359، بفارق نقطة عن درجات كل من السلفادور وباراغواي، التي حصلت كل منهما على 360 نقطة، وحصلت فلسطين درجة 361.
والمؤسف؛ أن التنافس بين الدول العربية في الدورات السابقة كان بين الأردن ولبنان على المرتبة الأولى بالتناوب! أما الطامة الكبرى فكانت بالدرجات التفصيلية، حيث كان الفارق بين أداء طلاب الأردن وبين المتوسط الدولي في الرياضيات 77 نقطة، وفي العلوم 72 نقطة، أما في المهارات القرائية فكانت النتيجة المحزنة بواقع 94 نقطة .
وبحسب علماء الاقتصاد ودراسات اقتصاديات التعليم، تبلغ تكلفة النقطة الواحدة 13 مليون دولار حتى تتقدم أي دولة نقطة واحدة فقط. وللأسف؛ لازال الأردن يحافظ على المقدمة في الفجوة بين الإناث والذكور لصالح الإناث، حيث كانت الفجوة في العلوم 32 نقطة وفي الرياضيات 15 نقطة، أما في القرائية 47 نقطة. هذه النتائج تصف نفس الواقع بتراجع الأداء في مبحثي الرياضيات والعلوم لعام 2019، وفقاً للتقرير الصادر عن المركز الوطني لتنمية الموارد البشرية.
وللمزيد عن هذا التقرير، الذي يجري كل ثلاث سنوات من قبل منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD) ولكن بسبب جائحة كورونا، تم تأجيل اختبار 2021 إلى عام 2022، حيث أنه يهدف إلى تقييم قدرات الطلاب في مجالات القراءة والرياضيات والعلوم. ويتم إخضاع حوالي 600 ألف طالبة طالب أعمارهم 15 عامًا من مختلف البلدان لاختبار يستمر لمدة ساعتين لتقييم مهاراتهم ومعرفتهم، أساسًا في تلك المجالات، إذ لا تستند أسئلة الاختبار إلى قدرة الحفظ للحقائق، بل تتطلب من الطلاب الاعتماد على مهارات حل المشكلات في الواقع.
وشاركت 81 فيه دولة في اختبار 2022، وجرى في ثلاث مجالات رئيسية للتعلم: مهارات القراءة والرياضيات والعلوم. ورافق ذلك مجال مبتكر يتغير من دورة إلى دورة، حيث يكون التركيز الرئيسي على الرياضيات، بينما يشكل التفكير الإبداعي المجال المبتكر. وشارك حوالي 6,300 طالب يتراوح أعمارهم بين 15 عامًا و 3 أشهر و16 عامًا وشهرين في وقت التقييم في المسح الرئيسي 2022.
وتشير نتائج العام 2022 التي نشرت بداية شهر ديسمبر 2023، إلى تفوق الدول الآسيوية على مستوى نتائج (بيزا) حيث تحتل خمس دول (سنغافورة، ماكاو، تايوان، اليابان، وكوريا الجنوبية) المراكز الخمس الأولى. وتتجاوز الدول ذات الدخل المنخفض مثل فيتنام الدول الأغنى كالولايات المتحدة في هذه المقاييس.
بينما تظهر الدول المشهورة بنماذجها التعليمية، نتائج متنوعة حيث تؤدي إستونيا بشكل استثنائي بينما تتأخر النرويج، التي تُعتبر عادة رائدة في مجال التعليم. وتظهر الولايات المتحدة، على الرغم من عدم وجودها ضمن الأداء الأعلى، بمرتبة متقدمة على العديد من القوى الاقتصادية الأوروبية، بما في ذلك فرنسا وألمانيا وإيطاليا.
وجاءت نتائج الدول العربية التي شاركت في الاختبار في دورته الأخيرة أقل من المتوسط العالمي للمنظمة. حيث شاركت كل من الأردن وقطر والسعودية والإمارات وفلسطين والمغرب في الاختبار، فأتت الإمارات بالمرتبة 46 على المستوى العالمي والأولى عربياً، أما قطر في المرتبة 48 عالمياً والثانية عربياً، وجاءت السعودية بالمرتبة 64 عالمياً والثالثة عربياً، ثم فلسطين بالمرتبة 72 عالمياً والرابعة عربياً، والأردن بالمرتبة 75 عالمياً والخامسة عربياً، وصولاً للمغرب التي حققت المرتبة 76 عالمياً والسادسة عربياً.
عربياً؛ هناك انحرافاً عن جوهر ما تتطلبه العملية التربوية من ( تحول) ضروري، بعد انهيار بنية التعليم، سواء في وضعيته، أو في البنية التحتية المتلاشية من الأصل؛ بفعل الحروب والاحتلال، والنزاعات، التي أنتجت أكثر من ثمانية ملايين طفل (يمني) بحاجة إلى المساعدات الطارئة في التعليم، وأكثر من 2.3 مليون طفل ( سوري) خارج المدارس، وضعفهم في الصومال وليبيا والعراق، ونصف مليون طفل (فلسطيني) يواجهون صعوبة الحصول على التعليم الجيد في بيئة غير آمنة يشوهها الاحتلال الإسرائيلي، بحسب معلومات صادرة عن منظمة اليونسيف.
* أي مستقبل ينتظرنا؟
"ما الذي أوصلنا إلى هذا الواقع؟!"، كان هذا التساؤل مفتاح النقاش بين العضوات، اللواتي أبدين قلقهن مما يحدث. وحسب الخبيرات في الشبكة يعود هذا الواقع إلى أسباب عدة، منها: تراجع جودة ونوعية التدريس الصفي في المدارس الأردنية، وتبعات جائحة كورونا على التدريس، وضعف الإقبال على التعليم المهني، وغياب تأهيل المعلم، ومعضلة "فقر التعلم"، وهو إخفاق الطالب في سن العاشرة أو الصف الرابع في التعبير عما استوعبه كتابة، وضعف المساءلة المجتمعية وتراجع دور الأهل.
ووفقاً لتقارير سابقة نشرتها النهضة العربية (أرض) والتي أظهرت نتائج محبطة على مؤشرات المسؤولية التي يشترك بها جميع المعنيين بالعملية التعليمية والتربوية في الأردن من أهل ومجتمع وطلاب أنفسهم، وضعف وجود مؤسسات تعليمية أهلية متخصصة وكافية لتعمل على حل هذه المشكلات، وما رافق القطاع من توافد اللاجئين والضغوطات الأخرى التي شكلت عائق لتقديم تعليم جيد وعادل لكافة فئات المجتمع، وصولاً أيضاً للظاهرة المقلقة التي أشار إليها التحقيق الاستقصائي (قيد التحقيق) حول لجوء الطلبة إلى بعض الدول للحصول على شهادة الثانوية العامة (التوجيهي) على يد سماسرة؛ لأسباب متعددة لكن أساسها الأول "امتحانات التوجيهي".
لكن كيف تشكلت عصابات التوجيهي واستقطابها لآلاف الطلاب للدراسة في تركيا دون التزام حقيقي بالدراسة بل لمجرد الربح المادي والنصب؟
وفي عام 2022 قرر مجلس التربية والتعليم في الأردن وقف الاعتراف بالشهادات الصادرة عن المدارس الدولية والخاصة في تركيا، معللاً القرار بضعف التحصيل العلمي. واستثنى المجلس من القرار، شهادات الثانوية للبرامج الأجنبية المعتمدة شريطة استيفائها متطلبات المعادلة، كما قرّر إخضاع حاملي الشهادات الصادرة عن المدارس الحكومية التركية لامتحانات القدرات المعرفية والتحصيلية.
لكن من الواضح أنه لازال هنالك مكاتب خدمية في الأردن، وفي تركيا أحياناً، تغرر بالتلاميذ وتعدهم بشهادات معدلاتها وفق المبالغ التي يدفعونها. فمثلاً معدّل 80% لقاء ألفَي دينار أردني، ومعدّل 85% لقاء 2500 دينار، بحسب تصريح سابق لمدير إدارة المناهج والكتب المدرسية في وزارة التربية والتعليم محمد كنانة.
فيما أشارت عضوة أخرى إلى مشكلة تتداخل مع هذه القضية، وهو ما أسمته سوق "I B "، أو التعليم الدولي داخل الأردن، وتقول "الأهل يدفعون مبالغ ضخمة للمدرسة أصلاً؛ ومن ثم يستعين بعض الأهالي بمساعدين ليكتبوا عن أولادهم المشاريع والمتطلبات الدراسية". وتوضح أن "نظام الـIB ليس فقط امتحانات بل أيضاً أوراق بحثية لكل مادة من المواد اللي يتقدم لها الطلبة بامتحانات.. ثمة ورقة بحثية تسمى external essay يتقاضى المساعدون لكتابتها للطالب من ٣٠٠-٧٠٠ دينار!. للأسف التعليم صار تجارة، وبالنهاية الضحية هو الجيل الجديد".
وأوضحت أنها عندما أعادت أحد أسباب انتشار ظاهرة تجارة الشهادات وهو صعوبة التوجيهي الأردني، فإنها لم تكن تدافع عن الظاهرة وخطورتها، وتقول "أنا حزينة.. وصعوبة التوجيهي ليس مبرراً أبداً، كلنا قدمناه وتعبنا في الدراسة، وهذا المطلوب. لكن الآن الكل يريد أن يصل إلى النجاح بدون تعب". واستدركت أنه وبغض النظر عن التفاصيل المؤلمة "مشكلة ويجب أن تتضافر الجهود الصادقة، وخاصة من خبراء التربية ومسؤوليها لإيجاد حلول منطقية للمشكلة الانحدار الأخلاقي والتربوي، لأن الانحدار عندما يصل إلى نقطة معينة فإنه يصبح مثل السرطان الخبيث ينتشر لكل النقاط والمفاصل بالمجتمع".
وتلفت إحدى عضوات "نساء النهضة"، إلى أن ظاهرة شراء الشهادات ومن مختلف الدرجات العلمية هي "قديمة ومستشرية وللأسف" وتعود لعشرات السنوات، لكنها ازدادت في السنوات الأخيرة، وطالت شهادات والقاباً مزورة من أعتى الجامعات الأجنبية.. "نعم هي ظاهرة قديمة وخاصة للجيل الأكبر لكن المؤسف الشباب الصغار باتوا يتورطون بصورة أوسع. إضافة إلى تحويل التعليم كوسيلة للربح وتجارة، وهذا هو المؤسف حقاً.
"الأمر يغضب كل من يراه.... أي مستقبل ينتظرنا؟.. ثم أين مستقبل الأجيال؟
* مشكلة مستعصية.. ومسؤولية مجتمعية
برؤيتهن؛ فإن "الارتقاء بمستوى تعلم الطلبة وأدائهم يتطلب مقاربات سريعة وأخرى متوسطة او طويلة المدى، وعلى المستوى القصير والعاجل، فلا بد من تشكيل فريق وطني من متخصصين يجرون دراسة متعمقة للكشف عن محددات أداء الطلبة الأردنيين، وبناء نموذج يوجه سياسات النظام التربوي للارتقاء بنوعية التعليم، كذلك تشكيل فريق دائم في الوزارة وشركائها للتخطيط للدراسات الدولية، وإعداد الأدوات والأدلة وتنظيم الحملات الوطنية ومتابعتها، ومتابعة برامج تدريب المعلمين".
ولأن "مسؤولية التعليم مجتمعية، من الضرورة أن يكون هناك دور متكامل بين كافة القطاعات الرسمية وغير الرسمية من مؤسسات المجتمع المدني والقطاع الخاص والأهالي والمدارس والحكومات، للنهوض بالعملية التعليمية ومحاربة مشكلاتها"، وكذلك "مطلوب التركيز على دراسة الطالب، والاشتباك المجتمعي لتغيير الأوضاع التربوية وتقديم حلول تربوية وتعليمية لهذه المعضلات"، وفقاً للعضوات.
وذلك يتطلب، إيجاد قوانين تمنع من استغلال (الطالب)، وتحد من جشع التاجر، والحفاظ على نوعية التعليم وجودته، وتطوير امتحان التوجيهي لضمان استقرار العملية التعليمية. وطالبن باستمرار التنسيق بين الشركاء، وتطوير سياسة خاصة تهدف لتطوير التعليم العام والعالي تكون منبثقة أو مبنية على الأهداف الوطنية المرتبطة بعملية الإصلاح الاقتصادي والسياسي المنشود، مما يستدعي معالجة كل العناصر التي تدخل في العملية التعليمية من حيث المناهج والقوى البشرية العاملة والبنى التحتية الضرورية.
وشددن على دور الأهل في التعامل مع أطفالهم، من خلال التركيز جيداً على مرحلة التأسيس وتدريسهم ومتابعتهم لترسيخ المعلومات في أذهانهم، مشيرات إلى أن رعاية الأطفال هو أقوى دعائم المجتمعِ تأثيراً في تكوينِ شخصياتهم، وتوجيه سلوكياتهم، وإعدادهم للمستقبل بأن يكونوا شخصيات قادرة وفاعلة.
بالنتيجة؛ لا يختلف إثنان أن التعليم هو سبيل التنمية الذاتية باعتباره مرتكز أساسي لبناء المستقبل لأنه يدخل في جميع المجالات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية، إذ من المهم تطوير أنظمتنا التعليمية ومواكبة التغيرات وامتلاك الأدوات الحديثة للتعامل معها والانفتاح على التعاليم الجديدة، وصولاً إلى تعليم مبني على الفهم وحل المشكلات، والتفكير الناقد، والتحليلي، والابتكاري، ويدمج المرأة في الحل كونها الأعلى تحصيلاً علمياًـ وتمتلك العديد من المهارات، لكن لا نجد أنها تأخذ الفرصة الكافية في كل المجالات.