سمير حاج
كاتب فلسطيني
نوال حلاوة
استغوار وقائع النكبة الفلسطينيّة، مِنَ أفواه النساء اللواتي اكتوَيْنَ بنارها، وتدوينها في قالب حكايات ومذكرات طفولية، هو مشروع مهم في كتابة الرواية الشفوية، من بؤرة المرأة المُغيّبة في مجتمعها الذكوري. وهو يندرج ضمن الاحتفاء بسرديات المرأة الفلسطينية على غرار «البحث عن فاطمة» (2000) لغادة الكرمي. هذا الصوت الجديد المشروخ بوجع التغريبة الفلسطينية، يحمل رؤية المرأة ومفهومها الكارثيّ للنكبة، التي عاشتها بتفاصيلها الصغيرة وتداعياتها اللامتناهية، بعيدا عن رؤية الكتابة التأريخيّة الأكاديمية، التي احتكرها أكاديميون وسياسيون يحملون رؤية ذكورية. و«الست زُبيدة» (2015) ـ المؤلّفة من 365 صفحة، ذات الغلاف المزيّن بصورة امرأة فلسطينية (اليافاوية) للفنان الفلسطينيّ جميل بدوان، صاحب أكبر لوحة زيتية في العالم، هي سيرة ذاتية لنوال حلاوة، كما أنّها سيرة مكان لمدينتيْن، يافا ونابلس قبل وإبان النكبة، يافا التي ولدت فيها الكاتبة ونابلس التي انتقلت إليها عام 1948، وهي سيرة جمعية للفلسطينيين الذين اقتلعوا من وطنهم.
تتكئ هذه السردية، على استقراء حكايات أمّها المنهالة من ذاكرة خصبة، والمسكونة بالحسرة والألم لفقدان البيت وخرابه، كما أنّها مفعمة بحنين رومانسيّ وبلوحات شاعرية إلى الطفولة المتروكة، في مدينة يافا – المكان الذي سُلخت عنه. السّرد مُترع بالنوستالجيا والمرارة معا «أصبحت مدمنة على سماع أمي التي كان يحلو لها سرد ذكرياتها الجميلة، والمثخنة بالجراح وهي تصف مدينة يافا، المدينة التي عاشت فيها أسعد أيام حياتها، كنت أحث أمي على المزيد منه، فيمتد بنا الوقت دون أن نشعر».
هذا التهافت في السنوات الأخيرة، في كتابة وأرشفة السيرة الذاتية الفلسطينية، بشغف ودوافع ذاتية وبأصوات نسوية، تُسرد من غُرف مغلقة، يشكّل خِزانة ثقافية في الحفاظ على الهوية ولملمة الذاكرة الجمعية والشهادات، خوفا من المحو والتلاشي والاندثار «كنت أشاركها الحديث، وأسمع ذكرياتها الساحرة التي كانت تعيدني إلى مرابع طفولتي الغضة في يافا الحبيبة، كنت أتمتع بمخزونها الهائل وأسجله في عقلي، وأحيانا على شريط كاسيت».
إنّ أحداث هذه السيرة، تنهال من مخزون ذاكرة الطفولة، حيث ُ تعود السّاردة إلى بيتها في يافا مرتيْن، قبل النكبة حين كان عامرا بأهله، ومرة أخرى حين زارته بعد النكبة بعقود، فور حصولها على الجواز الأجنبي، فوجدته خرابا «كل ما رأيته عن بعد كان صمتا وخواء وخرابا، بيتي الجميل أصبح متآكلا، نوافذه مغلقة وشرفته التي نمت فيها مع إخوتي لنشاهد المسحراتي وهو يطرق بطبلته ويصيح بصوته الجهوري: اصحى يا نايم.. وحد الدايم».
تتكئ هذه السردية، على استقراء حكايات أمّها المنهالة من ذاكرة خصبة، والمسكونة بالحسرة والألم لفقدان البيت وخرابه، كما أنّها مفعمة بحنين رومانسيّ وبلوحات شاعرية إلى الطفولة المتروكة، في مدينة يافا – المكان الذي سُلخت عنه
سرابية المنفى والتعلّق بالمكان
السردية مسكونة بوجع النفي والشتات، فهي تدين الذات بفعل الخروج من الوطن، رغم الاقتلاع والنفي القسريّ، وتمجّد الباقين في ديارهم «أيقنت منذ الصغر أن نكبتنا كانت في خروجنا من ديارنا، وكنت دائما وما أزال أحيي من أعماق فؤادي من بقي صامدا على أرض فلسطين، خاصة بعد أن تعرفت على بعضهم عن قرب، وجدت فيهم من افتقدته خلال سنوات الشتات، لم يتخلوا عن فلسطينيتهم، وعاداتهم التي بقيت حية بتراثها الغني والأصيل». مع أنّ الكاتبة تشير إلى سلخ وقلع وتهجير الفلسطينيين من بيوتهم بالسلاح والترهيب والذبح، فمجزرة دير ياسين «المذبحة في 9 إبريل/نيسان 1948 أسهمت في تفريغ البلاد من أكثر من 650 ألف عربي».
لقد كتب إدوارد سعيد في «تأملات حول المنفى» عن حياة المنفى: «غير أنّ من المنطقي القول إنَّ عالم المنفي الجديد هو عالم غير طبيعيّ يشبه اللاواقعية التي يتّسم بها عالم القصّ والتخييل» ووفق منظوره «النفي يجرّ إلى خراب».. إنَّ نفس الكاتبة مصدّعة ومشروخة، رغم اغترابها عقودا، ما زالت متعلّقة روحيًا ببيتها، مستودع أحلام طفولتها وذكرياتها.
إنَّ الجانر «رواية» المنقوش على صورة الغلاف، لا يُمَوضِع هذه السردية تحت جانر رواية بالمفهوم الفنيّ المعماريّ الروائيّ، إنّما ينسحب عليها توصيف «سيرة».
هذا التعلّق تنسحب عليه نظرية غاستون باشلار في جماليات المكان وسيكولوجيته، لأنّه ارتسم في مخيلتها بيت الطفولة الهانئة. وهي تتذكّره بتفاصيله، كما تتذكّر رموزًا يافية مثل مطعم «أبو العافية» و«الكلحة» و«حي النزهة»
و«موسم النبي روبين». إنَّ التعلّق بالمكان المسروق، موصوف بخلجات عاطفية، فالكاتبة تستذكر عشق أمّها ليافا. «ولم تنس أمي يافا وكانت تذكرها باستمرار، وكانت عاشقة للبحر مثلي، تغني له أغنية ليلى مراد الشهيرة: «أحب اتنين سوى المي والهوا… يا هناي بحبهم». وهي كذلك تحمل حنينا لمدينتها يافا، «رغم سلخي عن حبيبتي يافا، منذ النكبة الفلسطينية، فإنني ما زلت أحن إلى بحرها وسمائها وياسمينها وليمونها وبرتقالها الشهير. ورغم تراكم السنوات على ذاكرتي، وابتعادي الساحق عن مرتع طفولتي، ورغم تنقلي الدائم بعيدا عن محيطها وهوائها وفضائها، فإنني ما زلت أتذكر بأدق التفاصيل بيارة البرتقال المهجورة، التي كانت تقع أمام بيتنا الجديد في حي النزهة».
إنَّ الجانر «رواية» المنقوش على صورة الغلاف، لا يُمَوضِع هذه السردية تحت جانر رواية بالمفهوم الفنيّ المعماريّ الروائيّ، إنّما ينسحب عليها توصيف «سيرة». كما أنّها تحوي سردا يخرج من دائرة السيرة إلى النقد والحشو الاجتماعيّ، مثل آراء في نقد عادات وتقاليد ذكورية في الزواج، وإقصاء المرأة والبنت عن التعليم، والزج بهنّ في أعمال الخدمة وتصوير تعالي المجتمع المدني على المجتمع القرويّ قبل النكبة، وزيارات الأكاديمي الفلسطينيّ إبراهيم أبو لغد إلى مدينته يافا ودفنه فيها، وإدراج خواطر شعرية للكاتبة ومواضيع حميمية خاصّة بالكاتبة، رُغم ما تحمله هذه الموضوعات، من فكر تنويريّ ونقد لاذع للمجتمع وتمرّد، من حيث انعدام الوعي والتثقيف الجنسيّ، إلا أنّها تشكّل إقحاما لسردية هذه السيرة ذاتية وتخلخل بنيانها. كما تنعدم فيها التراتبية وتطغى عليها الوجدانية والرومانسية الحالمة، مثل زجّ رسالة شوق إلى يافا داخل قنينة ورميها في البحر لتصل يافا. رُغم هذه الهنات التكنيكية، تشكّل هذه السردية مِدماكا في بنيان أرشفة الذاكرة الفلسطينية بفرحها وفجائعيتها.. إنّها صوت وجع المنفى في استنطاق ومخاطبة المكان المسروق.. كما تحمل سمات أدب المنفى عامةً المسكون بسيمفونية التغريبة المترعة بالحنين والوجع.
#كاتب فلسطيني#