رئيس التحرير : خالد خطار
آخر الأخبار

فخ التشيؤ بقلم سارة جمال قاسم

فخ التشيؤ  بقلم سارة جمال قاسم
جوهرة العرب 

فخ التشيؤ

بقلم سارة جمال قاسم


يعد العصر الرَّاهن من أكثر العصور الممتلئة بضجيج الاغتراب والتشيُّؤ في كُلِّ نواحيه وزواياه من الشَّرق إلى الغرب، فالإنسان أصبح يولد منذ طفولته في عالمٍ من التِّيه يعجز فيه حتَّى عن معرفة ذاته، فقد أصبحنا في خضم مناقشة قضايا عديدة مرعبة مثل تأجيرِ الأرحامِ، والجواز العرفيِّ، والعلاقات الوهميَّة، وتأجيرُ الأجساد بهدف المُتعة لا غير، ناهيك عن مرحلة الشَّباب التي امتلأت حدّ الانتفاخ بالكثير من المشكلات التي لا مهربَ منها، كالبطالةِ والفقر والاستعبادِ ومشكلات التَّوظيف، فعلى سبيل المثال نجد أنَّ العديد من مؤسسات الأعمال أصبحت تولي اهتمامًا كبيرًا بوضع شروطًا شكليّة للتَّوظيف بها كتحديد "وزنًا مُعيَّنًا وطولًا محّددًا"، أي أنَّ شكل الأجسادِ أصبح مقياسًا ضروريًّا للحصول على وظيفة، إنَّ نظرة الإنسان إلى كُلِّ ما يدور حوله أصبحت لا تتعدَّى نطاق الأشياء الماديَّة التي تحرَّرت تمامًا من العواطفِ والمشاعرِ والاتِّجاهات النبيلة، حتى انتماءهُ إلى موطنه لم يعُد يتخطَّى سوى اسم الموطنِ على بطاقةِ الهويَّة، بل إنَّنا اليوم نجد على مواقع التَّواصل الاجتماعيِّ الكثير من الشباب يسبُّون بُلدانهم ويتبَّرأون منها، ومن جهة أخرى نجد الكثيرين ممَّن يسعون إلى الهجرة الشرعيَّة أو غير الشرعيَّة وكأنَّ أوطانهم أصبحت قيدًا يلتفُّ حول رقابهم يريدون التَّملُّص منه بأيِّ شكل أيًّا كان، كما نجد أنَّ العلاقات الأسريَّة نفسها أصبحت مُشيَّئةً في ظِلِّ التقدُّم التكنولوجيِّ والعلمانيَّة التي نحياها، فأصبح الجميع يحيا داخل هواتفه وأجهزته الإلكترونيَّة غارقًا في عالمٍ من الخيال بعيدًا عن واقعه، يمرُّ به العمرُ سريعًا وهو ناظرٌ إلى هذه الشَّاشات لا حراكَ له، كما أنَّ الشباب حينما يريدون الزَّواج يلجؤون إلى علاقاتِ حُبٍّ وهميَّة تعوِّضهم عن ما يفتقدونه وتوفِّر عليهم الكثير من الضُّغوط النفسيَّة والتي قد تتحوَّل بدورها إلى نزوةٍ في النهاية لا تمتُّ إلى الحُبِّ بصلة، أيضا نجد بعض الأزواجِ والزَّوجات الغارقين في وحل العالم الإلكترونيِّ لتعويض ما ينقصهُم بالفيديوهات الإباحيَّة أو بالإقدام على علاقات مُحرَّمة دون إعمالِ الدِّين أو القيم والمبادئ، على صعيدٍ آخر نجد أنَّ العالم قد أصبح في ظِلِّ هذه التقنيَّات قريةً صغيرةً يسعى الجميع فيها إلى تقليد الآخر حدّ الذَّوبان حيث أنَّ الإنسان يفقد ماهيَّته ليتحوَّل إلى شخصٍ آخر تمامًا غير الذي هو عليه. إنَّ التشيُّؤ لم يكن مُقتصرًا على مجتمعِ الرأسماليَّة ويكذب من يظن أنَّه انتهى بالثَّورة الفرنسيَّة ليتحرَّر العاملُ من قبضةِ السيادة والسُّلطة التي كانت تحكمه، بل إنَّنا اليوم نحيا في مجتمعٍ أكثر تشيُّؤًا وأكثرَ رُعبًا من ذي قبل، إنَّنا نحيا في عصر الخيال لا في عصر الحقائق، تحكمنا القوانين، وتسيطر علينا المادَّة، مُكمَّمةٌ أفواهنا رُغمًا عنَّا، ومُقيَّدةٌ أيادينا مُغمضين الأعين بإرادتنا، نسعى جاهدين إلى السَّيطرة على الطَّبيعة، بينما تلتفُّ حبالها من وراء ظهورِنا لتكبّل ما تبقَّى لدينا من حُريَّة، لقد أصبحت المرأةُ سلعةً تُباع وتُشترى واعترف الكثيرات منهنَّ بذلك مؤخَّرًا ساعياتٍ إلى عمليَّات التَّجميل والنَّحت التي تجعل منهنَّ سلعةً قابلةً للشراء يُمكن عرضها عبرَ الشاشات والمجلَّات بل وفي الطُّرقات أيضًا، كما أصبح الرَّجل يستعرض قواه العضليَّة والذكوريَّة وكأنَّ تلك القوى هي التي تجعلُ منه رجلًا بغضِّ النظر عن قيمهِ الدينيَّة والأخلاقيَّة والفكريَّة، لذا فمن الطَّبيعي أن تنتج مجتمعاتنا كمَّ هذه العلاقاتِ المُشيَّئة والتي بدورها تُنتج أطفالًا كارهين للمجتمع، حاقدين عليه، مسلوبين الإرادةِ، متَّجهين إلى الآلات الإلكترونيَّة التي تُنسيهم مشاكلهم وقضاياهم المجتمعيَّة. لذا فإنه لا بد علينا أن نسعى جميعًا إلى الحدِّ من هذه الصُّور الزَّائفة، وإعمالِ عقولِنا وتزويدها بالثَّقافات المتنوّعة والُّلجوء إلى الدِّين ونصوصِه الشرعيَّة لإشباعِ أرواحنا المُتعطِّشة إلى كشف الحقائق، واكتساب القيم الجماليَّة والأدبيَّة التي تُمكِّننا من خوض غمار هذه الحياة باتِّزان وثقة دون تخبُّط أو ملل، يتوجَّب علينا أيضا استرجاع تُراث الماضي بجماليَّاته وقيمه وآدابه، لنُعيد للأسرة هدوئها، وللمرأةِ قيمتها، وللرَّجل هيبته، وللطفل براءته، وللعقل اتِّزانه، وللعالم واقعيَّته مرةً أخرى.. والسلام.