خلال الأسبوع الماضي، وبينما كنت أراجع الأخبار التي كانت مشغولة بعرس الوطن الانتخابي لمجلس النواب العشرين في مملكتنا الحبيبة، لفت انتباهي خبر عن شركة البوتاس العربية. الخبر تناول تصدير أكبر شحنة من البوتاس في تاريخ الشركة إلى أوروبا، وهو ما استوقفني ودفعني للتفكير بعمق. 54.8 ألف طن من البوتاس تم تحميلها من ميناء العقبة متجهة إلى هولندا وبلجيكا. إنجاز يُضاف إلى سجل الشركة الذي لطالما حظي بدعم قيادتنا الهاشمية الحكيمة منذ تأسيسها قبل أكثر من 40 عامًا. ولكن أثناء مراجعتي للخبر، تساءلت: هل نحن فعلاً نستغل إمكانيات البحر الميت كما يجب؟
هذا التساؤل دفعني للحديث مع صديقي المهندس رائد الصعوب، وهو شخص لطالما أبهرني بخبرته العميقة في صناعة البوتاس والأسمدة. رائد شغل مناصب قيادية في شركة البوتاس العربية لمدة عشر سنوات وكان مسؤولاً عن الأبحاث والدراسات فيها، كما شغل لاحقاً منصب الأمين العام للاتحاد العربي للأسمدة. كلما تحدثت معه، كان يدهشني بالأرقام التي يكشفها عن حجم الفجوة بين ما نحققه نحن وما تحققه الشركات الأخرى التي تستغل نفس المصدر، لكن هذه الأرقام لم تكن الشيء الوحيد الذي شغل ذهنه.
فجوة الأرقام: حقائق مذهلة
عندما تحدثت مع المهندس رائد عن الأرقام، أوضح لي أن مبيعات ICL الإسرائيلية، التي تستغل نفس البحر، بلغت في عام 2022 حوالي 10 مليارات دولار، في حين أن شركة البوتاس العربية لم تحقق سوى 1.79 مليار دولار في نفس العام. هذا الفارق الكبير أثار اهتمامي بشكل كبير، خاصة عندما ذكر لي رائد أن مبيعات ICL في عام 2023 تراجعت إلى 7.54 مليار دولار، بينما مبيعات البوتاس العربية انخفضت إلى 1.12 مليار دولار فقط.
إجمالي مبيعات ICL خلال العامين بلغ 17.55 مليار دولار، في حين أن البوتاس العربية حققت فقط 2.9 مليار دولار** خلال نفس الفترة. كلما أسمع هذه الأرقام من رائد، يزداد دهشتي من حجم الفرصة الضائعة. هذه الفجوة الضخمة تعني أن الأردن خسر ما يقارب 14.64 مليار دولار من المبيعات خلال السنتين الماضيتين، وهي أرقام تؤكد حجم الإمكانيات التي لم نستغلها بعد.
الفرصة ليست بالأرقام فقط
لكن ما كان يبهرني أكثر في حديثي مع المهندس رائد لم يكن مجرد الأرقام، رغم أهميتها. كان يركز في كل مرة على رؤية أبعد من الأرقام. كان يتحدث بحماس عن إمكانية تحويل المنطقة الجنوبية من البحر الميت، بدءاً من غور المزرعة، مروراً بغور عسال، واستكمالاً لغور النميرة وغور الصافي، إلى ما أسماه هو "منطقة البحر الميت الصناعية". كان هذا الحلم بالنسبة له أكثر من مجرد فرصة اقتصادية؛ كان يراه كحل شامل يعيد تشكيل واقع المنطقة كلها.
منطقة البحر الميت الصناعية
خطة المهندس رائد لتحويل هذه المناطق إلى منطقة صناعية متكاملة لم تكن مجرد فكرة عابرة. كان يتحدث عن ضرورة إنشاء صناعات استراتيجية تخدم صناعات البوتاس والأسمدة الموجودة بالفعل، وأخرى مرافقة تدعم تلك الصناعات. هذه الخطة الشاملة تهدف إلى إنشاء مصانع جديدة تعتمد على مخرجات الملاحات الشمسية من المواد الأولية، بالإضافة إلى استخلاص منتجات كيميائية استراتيجية متخصصة قبل إنتاج البوتاس.
ما أبهرني أكثر هو حديثه عن الشراكات الدولية التي يمكن أن تدعم هذا المشروع، مثل الشراكة التي أقيمت سابقاً بين شركة البوتاس وشركة ألبيمارل العالمية لإنتاج مادة البرومين الاستراتيجية وبعض المشتقات الكيميائية المصاحبة. رائد يرى أن مثل هذه الشراكات هي المفتاح لتطوير الصناعات الكيميائية ذات القيمة المضافة العالية، والتي ستسهم في رفع حجم المبيعات تدريجياً خلال العشرين عامًا المقبلة.
البنية التحتية ودورها في التنمية
بالإضافة إلى ذلك، كان رائد يشير إلى أهمية تطوير البنية التحتية لدعم هذه الصناعات. لقد أدهشني حديثه عن مشروع الشركة الأردنية الإماراتية الذي يهدف إلى ربط فعاليات شركة البوتاس الإنتاجية في غور الصافي مع ميناء العقبة عبر خط سكة حديد. هذا المشروع سيتيح نقل الخامات الأردنية، بما في ذلك البوتاس والفوسفات ومشتقاتهما، بشكل أسرع وأكثر كفاءة إلى العقبة للتصدير.
رائد كان يرى أن هذا الربط ليس مجرد وسيلة لزيادة أرباح الشركة، بل هو جزء أساسي من رؤية أكبر لتحويل منطقة البحر الميت إلى منطقة صناعية متكاملة. هذه المنطقة ستكون قادرة على جذب الاستثمارات الأجنبية، وستخلق فرص عمل جديدة للشباب الأردني، خاصة في المناطق الجنوبية من المملكة التي تعاني من معدلات بطالة مرتفعة.
حل مشكلة البطالة
رغم أن الأرقام التي كان يذكرها لي رائد كانت مذهلة ومثيرة للاهتمام، إلا أن ما شغل باله أكثر كان تأثير هذه المشاريع على الاقتصاد الأردني وعلى حياة المواطنين. كان يؤكد في كل مرة أن الهدف النهائي ليس فقط زيادة المبيعات وتحقيق الأرباح، بل خلق فرص عمل للشباب الأردنيين الذين يعانون من البطالة.
كان رائد يرى أن استغلال كنوز البحر الميت المفقودة يمكن أن يكون الحل الأمثل لهذه المشكلة. كلما تحدث عن هذه الخطة الشاملة، كان يبدو وكأنه يرى بعينيه مستقبلًا أفضل للأردن، حيث يكون البحر الميت ليس فقط مصدرًا اقتصاديًا مهمًا، بل محركًا للتنمية الشاملة.
الخطة المستقبلية: هدف 5 مليارات دولار سنوياً
استناداً إلى حديثي مع المهندس رائد، فإن الحل يكمن في وضع خطة استراتيجية تهدف إلى رفع مبيعات شركة البوتاس العربية إلى 5 مليارات دولار سنوياً خلال 20 عامًا. هذا الهدف قابل للتحقيق من خلال زيادة المبيعات بمقدار مليار دولار كل خمس سنوات، مع استغلال إمكانيات المنطقة الجنوبية من البحر الميت وتحويلها إلى منطقة صناعية متكاملة.
كلما كنت أتحدث مع رائد، كان يؤكد لي أن هذه الخطة ليست مجرد حلم، بل هي واقع يمكن تحقيقه إذا توفرت الإرادة والرؤية الواضحة. التحول نحو استغلال الطاقة الشمسية في العمليات التصنيعية، وتوسيع نطاق الصناعات الكيميائية المتقدمة، يمكن أن يقودنا إلى تحقيق هذا الهدف.
القيادة الوطنية والرؤية المستقبلية
من خلال حديثي مع المهندس رائد، رأيت أن هذا الطموح الكبير ليس بعيد المنال. دعم القيادة الهاشمية كان دائمًا المحرك الأساسي للإنجازات الوطنية، وجلالة الملك عبد الله الثاني وسمو ولي العهد الأمير الحسين بن عبد الله هما مصدر الإلهام الذي يمكن أن يدفعنا نحو تحقيق الأفضل. ما ندعو إليه اليوم هو تبني رؤية شاملة لتحويل منطقة البحر الميت إلى منطقة صناعية متكاملة، تعود بالنفع على الاقتصاد الوطني وتخلق آلاف فرص العمل للشباب الأردني.
### الخاتمة: البحر الميت هو مفتاح المستقبل
ما خرجت به من حديثي مع المهندس رائد هو رؤية واضحة لمستقبل مليء بالفرص. البحر الميت هو كنز حقيقي، ويمكن أن يكون المحرك الأساسي لتحسين الاقتصاد الأردني. يجب أن نضع هذا الهدف في صدارة أولوياتنا الوطنية، وأن نعمل بخطوات واضحة ومدروسة لتحويل هذا الحلم إلى واقع.