تسونامي الإخوان كتب جميل النمري

جوهرة العرب 

تسونامي الإخوان /  جميل النمري

 في انتخابات العام 1989  شهدنا تسونامي إخواني يجتاح الانتخابات فوق كل التوقعات. ولا تقارن انتخابات هذا العام 2024 إلامع  تلك الانتخابات مع فارق السياق. 

هناك وجهين للتشابه  الأول  هو صدقية الانتخابات. والثاني صدمة النتائج .

 مسار الانتخابات كان شفافا نظاميا صارما وقرار الانتخابات الحزبية كان قفزة في الظلام قفزة جريئة صدمت نتائجها الجميع كما حدث عام  89 . كنت اتعجب من التحليلات التي توزع المقاعد بكل ثقة سندا لتصورات مسبقة عن هندسة الانتخابية امتداد للهندسة الحزبية التي انجزت قبل الانتخابات. بينما الحقيقة في مكان آخر يحجبه ظلام دامس.

توقعاتي لمخاطر  النظام الانتخابي ( وإسمه الانظام المختلط المتوازي) كنت اطرحها في لجنة التحديث السياسي وقتلت نفسي وانا اوضح ان هذه الطريقة تضع طريقة الانتخاب الجدية كليا بمسار خاص مواز للطريقة القديمة المختبرة المعروفه والتي نعرف  سلوك الناخبين  فيها وتوقع نتائجها. هذا المسار الجديد يضع قدمنا حرفيا في فراغ لا نتبين فيه سوى طرف واحد هو التيار الاسلامي.

عام ٨٩ عندما إتخذ المرحوم الحسين طيب الله ثراه القرار الجريء بإجراء انتابات نيابية حرة بعد غيابها لعقود قال نريد فتح غطاء الطنجرة ونرى ما فيها. وما رايناه كان صدمة خارج التوقعات. فوز مرشحي الاخوان بثلث مقاعد النواب مع انهم ليسوا شخصيات معروفة الا في المستوى القاعدي المحلي في جوامع الاحياء ومراكزها الخيرية أما الشخصيات السياسية التي فازت فجاءت عبر مواقعها العشائرية المحلية وبصعوبة.

استوعبت الدولة الصدمة وتعاملت مع برلمان مشاكس جعل الدولة اقوى وتستخلص الدروس وتضع نظام الصوت الواحد الذي اعاد القوة التصويتية للاخوان الى حجمها العادل. لكن النظام حجر على الواقع السياسي الاجتماعي ومنع تطوره لثلاثين عام حتى قرر جلالة الملك الخطوة الحاسمة والجريئة بإدخال النظام الحزبي على الانتخابات عبر مشروع التحديث السياسي وكانت الصيغة التي تقررت هي  انشاء الدائرة الوطنية الانتخابية تتنافس على مقاعدها قوائم حزبية مغلقة.

هذه الصيغة كانت قفزة في المجهول   وهي تشبه رمي ثلث المقاعد في حفره ضخمة مظلمة لا ينتظر فيها حزبيا سوى جبهة العمل الاسلامي.

 هل كان ممكنا خلال عام ونصف نشوء احزاب قوية منافسة؟! طبعا لا ولذلك ذهبت رهانات المراقبين او تخميناتهم الى الهندسة الحزبية والانتخابية التي ستؤدي الى توزيع مقاعد بأعداد مقررة. وكم صرف القوم من الوقت وتبارزوا في التوقعات وكنت ترى الشاطر يسحب ورقة ويسجل ويختلف مع غيره على سبعة او ثمانية لجبهة العمل واكثر منها للميثاق واقل قليلا لارادة وهكذا.

الآن ثبت بالوجه القطعي ان ما اطلق عليه الهندسة الحزبية لم يكن الا جهدا لدعم نجاح الرؤية الملكية وتشجيع الانخراط والمشاركة الحزبية فلا تبقى الاحزاب كما كبيرا مبعثرا من المجموعات الشخصية وربما اعتقد الجميع ان العملية تهندست جيدا ولم يبق سوى توزيع المقاعد لكل حزب. والآن ثبت بالوجه القطعي انه لم يكن ثمة هندسة انتخابية وان كل حزب عليه ان يعتمد على نفسه في المنافسه.

اتضح ان قرار جلالة الملك الذي التزم به الجميع هو انتخابات نزيهة شفافة حيث يخرج من الصناديق ما دخل اليها فعلا. وربما كانت التوقعات او الافتراضات هي نفسها التي حكمت صياغة النظام الانتخابي  .. فرضيات ذهنية تحاكي نماذج الديمقراطيات الحزبية المعروفة بينما الهندسة الحقيقية تستدعي دراسة مدققة طبوغرافية وديموغرافية لتصميم ليس البناء بل الجسر ذي الوظيفة الانتقالية الى نظام حزبي برلماني ناجح. وهذا حديث آخر.

القرار الجريء للدولة بانتخابات شفافة ونظيفة على اساس التصويت لقوائم حزبية مغلقة على المستوى الوطني اعطى نتائج صادمة اكثر من انتخابات 89 لأن تلك الانتخابات بقي فيها على الاقل العنصر التقليدي للانحياز العشائري لأن الناخب يمكن ان يجمع صوت على خلفية عشائرية وآخر على خلفية مصلحية وثالث على خلفية دينة. لكن هنا فلديه صوت واحد يعطيه على اساس سياسي حزبي. هنا لا يوجد سوى جبهة العمل الاسلامي وحولها الفراغ والأجسام المرنة تتمدد في الفراغ وقد ضاعفت جبهة العمل الاسلامي اصواتها عما حصلت عليه في القوائم المحلية.

دعنا من لوم الأحزاب الأخرى جديدها وقديمها فهي ما كانت تنافس على المستوى المحلي الا بتوفر مرشح ذي عمق ونفوذ اجتماعي ومالي قوي وليس متوقعا ان تنافس على المستوى الوطني سوى بنفس الطريقة. ولكن بالقوائم المغلقة لا تتوفر سوى بضهة مقاعد لا تغطي قاعدتها المحلية لكل منهم بضعة مئات او آلاف وهذه لا تكفي حتى الوصول للعتبة ولعل كل مقعد اضافي كان يحتاج الى انفاق هائل وكانت صدمة هذه الأحزاب كبيرة لأنها ايضا استندت الى خبرة صفرية وافتراضات ذهنية لا علاقة لها بالواقع. أما الأحزاب السياسية القادمة من تاريخ عريق فقد تقاسمت تلك النسبة الضئيلة من الجمهور المسيس او الذي استطاعت وصوله واستمالته شخصيا ومباشرة دون اي اثر للخطاب الساسي والبرامجي الموجهة للرأي العام.

رب ضارة نافعة. هناك دروس للدولة والأحزاب. ثم فليكن لجبهة العمل الاسلامي هذه النسبة الضخمة من المقاعد الحزبية وليتحملوا مسؤولية اكبر ويخرجوا من خطاب الضحية والمظلومية ولتخرج الدولة من دائرة الاتهام. ولنقبر نظرية المؤامرة التي لاحقت مشروع التحديث ولنردم فجوة الثقة. مصداقية الانتخابات هي الآن كاملة وصافية. وأمام النواب ان يواجهوا تحدي الثقة بالأداء وامام الأحزاب تحدي استخلاص الدروس.

الدروس كثيرة لكن اشير الى الدرس الأول والذي سيسارع لإعلانه كل من جاهر بالمعارضة لهذا النظام الانتخابي وهو عدم جاهزية الاحزاب له. هذا الادعاء صحيح ومعروف لكن الاستخلاص الخاطىء كان تأجيل الاصلاح السياسي بإنتظار نضوج الأحزاب وهذا لم يحدث خلال الثلاثين عاما الماضية ولن يحدث اذا بقينا على القديم عقدا آخر. الاستخلاص الصحيح هو وضع نظام انتخابي حزبي يقوم على التجسير بين القديم والجديد. وحتى لا يتهمني احد بممارسة الحكمة بأثر رجعي فهذا ما كنت اردده كل يوم في لجنة التحديث السياسي وهو موثق عبر المقترحات البديلة التي كنت اقدمها محذرا من حصر الأحزاب في الدائرة العامة والترشح المنفصل عن الدوائر المحلية لأن الجمهور ليس جاهزا للتصويت الحزبي المنفصل. لقد ترجم البعض فكرة الملك عن التدرج بطريقة ميكانيكية صرفة وكان رأيي هو تحزيب ثلث المقاعد المحلية وعلى الأقل الربط بين التصويت المحلي والوطني. وعندما وصلنا الى النص على توسيع الدائرة الوطنية الحزبية الى نصف المقاعد في الانتخابات القادمة واعترضت لنفس الاسباب تم مراضاتي بوضع شرط الربط بين القوائم الوطنية والمحلية.

اما وقد اصبح القانون الجديد امرا واقعا فقد دافعت بقوة عن المنجز مع تمنية النفس بالنجاح في التهيوء للتحدي الصعب بافضل طريقة وخلال الفترة القصيرة المتاحة لكن قصة هذه الفترة لها حديث آخر.