يصادف الرابع والعشرون من أكتوبر الجاري يوم تأسيس منظمة الأمم المتحدة التي نشأت على أنقاض الحرب العالمية الثانية في العام 1945 بهدف حفظ الأمن والسلم الدوليين واحلال السلام ومنع الأخطار والحروب وذلك بعد أن عانت الإنسانية جمعاء من مغبة الحروب التي طمرت حضارات قائمة وخلفت ملايين القتلى والمصابين وأدت إلى تفشي الأوبئة والمجاعات وتدهور اجتماعي واقتصادي عالمي، وكانت الآمال معلقة على هذه المنظمة الدولية أن تمنع الحروب والمعاناة الإنسانية الناجمة عنها، واليوم وبعد 79 عام على تأسيسها إلى أين وصلت؟ وهل حققت الأهداف التي تأسست من أجلها؟ والأهم من هذا كله هل تغيرت هذه الأهداف مع الزمن؟ وماذا عن مصداقيتها وثقة الشعوب بها؟
أعتقد أن نظرة سريعة على الحروب والنزاعات التي قامت في العقود الثلاثة الأخيرة فقط كفيلة للإجابة عن الأسئلة السابقة بأن الخلل قائم وواضح في عمل وفعالية منظمة الأمم المتحدة التي وجدت بالأساس لإحلال السلام ومنع الحروب، بداية بالحرب على أفغانستان (2001- 2021) مرورا بالحرب على العراق (2003 – 2011) وما خلفته من تبعات لا تزال المنطقة والعالم بأسره تعاني منها، والحروب في سوريا واليمن وجنوب السودان التي حولت بلادا آمنة مستقرة إلى بؤر للحروب والفوضى والمعاناة الإنسانية من مجاعات وأوبئة وأزمات نزوح ولجوء، ناهيك عن الحروب والنزاعات الكثيرة القائمة في أفريقيا وتضارب المصالح العالمية هناك الذي ينذر بصراع عالمي جديد محوره القارة السمراء إن استمر الوضع على ما هو عليه، وبالتأكيد القضية الفلسطينية والصراع العربي/الفلسطيني - الإسرائيلي الممتد عبر القرون والذي لا يزال مستمرا إلى وقتنا الحالي وتصعيداته الخطيرة الأخيرة بعد أحداث السابع من أكتوبر وما تبعها من حرب شاملة وعدوان على قطاع غزة وجنوب لبنان، ومواجهة مباشرة إسرائيلية إيرانية تضع منطقة الشرق الأوسط برمتها على أبواب صراع طويل الأمد -لا قدر الله - لن يكون فيه خاسر ورابح بل سيخسر العالم أجمع والإنسانية جمعاء من مغبته، والحرب القائمة في أوروبا والمتمثلة بصراع المعسكر الشرقي الحديث - إن جاز التعبير- والمعسكر الغربي في أوكرانيا والذي شهدنا فيها احتداما قويا مباشرا بين القوى العالمية العظمى ينذر باشتعال حرب عالمية ثالثة إن بقي الحال على ما هو عليه. والحديث يطول عن النزاعات والصراعات القائمة وتلك التي قيد الاشتعال، والتي أعزو أسباب تفاقمها الرئيسية إلى سياسة المعايير المزدوجة والكيل بمكيالين التي أعتقد أن منظمة الأمم المتحدة انتهجتها في العقود الأخيرة نتيجة للانصياع للضغوطات السياسية-الاقتصادية التي مارستها بعض القوى والجهات العالمية على الأمم المتحدة في اتخاذ القرارات الأممية.
لقد كان خطاب جلالة الملك عبدالله الثاني في الدورة التاسعة والسبعين للجمعية العامة للأمم المتحدة بمثابة دعوة لهذه المنظمة العالمية المهمة للاستيقاظ قبل فوات الأوان والعودة إلى الطريق الصحيح لأن البديل إن لم يتم ذلك هو فقدانها المطلق لثقة الشعوب وبالتالي لشرعيتها عاجلا أم آجلا وما سيخلفه هذا من آثار مدمرة على العالم بأسره، والمُطّلع على السياسة العالمية والمتابع لها يعرف جيدا مدى شجاعة هذا الخطاب الملكي العالمي في زمن اختلط فيه الحابل بالنابل وباتت كلمة الحق صعبة جدا وتخشى الغالبية من قولها.
باعتقادي لن يعود العالم كما كان عليه قبل الأحداث الدائرة في غزة وأوكرانيا، والجلي أن نظاما عالميا جديدا في طور التشكل والولادة، ولن يستطيع أحد الوقوف أمام هذا التغير ولكن يمكننا تحديد مساره، المسارات المتاحة إما تصحيح المسار القائم بالعودة إلى الاحتكام للشرعية الدولية بعيدا عن سياسة المعايير المزدوجة وسيتطلب هذا إعادة صياغة للتشريعات العالمية واستحداث آليات جديدة تضمن الحيادية التامة لمنظمة الأمم المتحدة ومؤسساتها الست الرئيسية، لأن المسار الآخر هو نظام عالمي جديد سيقوم على أنقاض حرب عالمية ثالثة مخلفة وراءها معاناة إنسانية لم يسبق لها مثيل في التاريخ نظرا لتطور آلة الحرب الحديثة وأساليبها.
وأستذكر هنا ما قاله أينشتاين عندما وافق إيمانويل كانط على ضرورة وجود ما سمياه آنذاك "بالحكومة العالمية" وهي ما تُرجم لاحقا بتأسيس منظمة الأمم المتحدة: " المشكلة ليس في وجود مثل هذه الهيئة بل في فرض الخضوع لها والامتثال لقراراتها وأحكامها وهذا لن يكون إلا بتوافر قوة عالمية تفرض قرارات هذه الهيئة وفي ظل غياب هذه القوة لا معنى لوجود تلك الهيئة" فأين هي القوة العالمية المحايدة التي تضمن تنفيذ قرارات الأمم المتحدة وحيادتيها؟