رئيس التحرير : خالد خطار
آخر الأخبار

غرباءٌ يكتبونَنا بقلم د. سامية كيحل

 غرباءٌ يكتبونَنا  بقلم د. سامية كيحل
 جوهرة العرب

غرباءٌ يكتبونَنا
 د. سامية كيحل
في فجرِ الحرفِ، قفزَ فيلسوفٌ إلى قلبي
عاريًا إلّا من فوضى السؤال…
سكنَ في صدري كهُدنةٍ بين جنونٍ وجنون
ولم يعتذرْ…

ديوجينُ ألقى مصباحهُ في مقلتي
فأضاءتِ العتمةُ داخلي، لا حولي
وقال: «الحقيقةُ يا صديقتي،
تنامُ في حضنِ الريح… لا في جيبِ نبيّ»

أفلاطونُ قبّل فكرةً في غفلةٍ من الظنّ
وسقى مدينتَهُ شرابَ الأملِ المسمومْ
وسقراطُ ضحكَ ملء السماء
وقال: «نجونا بالشكّ، فمتى نهلكُ باليقين؟»

وأنا…
أجلسُ بين غرباءَ وحكماءَ وحروفٍ لا تكتملْ
أراقبُ قلبي وهو يتعلّمُ الغربةَ كفنٍّ نبيلْ
وأكتبُ صمتي…
على ورقٍ أزرقٍ لم يمسّهُ حرفٌ من قبلْ

ثم جاءَ الشعراءُ…
المتشرّدون في أرصفةِ المعاني
يُلملِمون شظايا الحبّ من ركامِ ليلٍ كسيرْ
المجنونُ يهمسُ للقصيدةِ: «قولي ما لا يُقال…»
والمتنبي يبتسمُ ساخرًا: «ربّما الشعرُ أكبرُ من أن يُفهمْ…»

امرؤ القيس يسكبُ دمعًا على طللٍ
فيرتوي الترابُ حنينًا وشهوةً وألمْ
ونزارٌ يُشعل أنثى بين شفتين
فتشتعلُ القصائدُ نارًا وخمرًا وعطرًا لا ينطفئْ…

وأنا…
أكتبُني في خلوةِ فلاسفةٍ وشعراءْ
أغزلُ الجنونَ خيطًا من نورٍ
وأزرعُ في الليلِ قناديلَ من حلمٍ وحرفْ

في خزائنِ روحي
قصائدُ بلا اسمٍ ولا أبٍ
وأحلامٌ تهمسُ للفكر: «كن مجنونًا لتُبصر…
فالجنونُ نافذةُ الخلود…
والشعرُ بابٌ لا يُقفل…»

 الجزء الأعمق 

وفي الغربةِ الكبرى
يلتقي شاعرٌ أعمى بحكيمٍ أبكم
يتحادثانِ بصمتٍ يفهمهُ الوجودْ
العتمةُ تصيرُ لغةً
والصمتُ يصيرُ أغنيةً لا يسمعها سواهمْ…

الروميّ يدورُ حول قلبِهِ
يغنّي للحبِّ الذي يذبحُ ليُحيي
وفي رقصتِه يسقطُ جدارٌ بين الجنونِ والعقلْ
ويولدُ يقينٌ هشّ:
«الحياةُ سؤالٌ لا يحتاجُ جوابًا… فقط قلبًا يحترقُ ليعرفْ…»

وفي زاويةٍ قصيّةٍ من الروح،
يلتفُّ المتنبّي على ظلِّه
يرسمُ لنفسهِ مجدًا من جرحٍ واعتدادْ
يهمسُ لي: «الشعرُ سيفٌ من وهْمْ…
لكنّهُ الوهمُ الذي يُنقذُنا من العدمْ…»

هنالك أيضًا شاعرةٌ مجهولةُ الاسم
تكتبُ على جدارِ الغيمِ قصائدَ لم يقرأها أحدْ
قصائدُ مكسورةٌ مثلَ ضلوعِ عاشقةٍ وحيدةْ
لكنّها تبقى… لأنها صادقةٌ كدمعةٍ تهبطُ في الظلامْ

وأنا…
أُصغي لهمْ… أُصغي لما لا يُقالْ
وأجمعُ من كلِّ غريبٍ قبسًا من نارٍ
ومن كلِّ شاعرٍ خيطًا من قلبٍ
ثم أكتبُني: نصًّا لا وطنَ له
قصيدةً ترفضُ أن تنتهي
وحقيقةً تُولدُ في الشكِّ كلَّ يومْ…

الحفر الأعمق

في كهفِ الروحِ…
تجلسُ امرأةٌ وحيدةٌ تُصلّي للقصيدةِ أن تُولَدْ
شفاهُها تُردّدُ أسماءً لا تنطقُها الشفاهْ
وعيناها تنحتانِ على الليلِ وجعًا جميلاً…
وجعًا لا يشبهُ إلا حقيقتها العاريةْ

هنالك في زاويةِ الغيابْ
يقفُ غريبٌ آخرُ
رجلٌ انكسر قلبُهُ في منتصفِ كلمةٍ
فصارَ قلبُه قصيدةً لا تكتملْ
يكتبُ للحبِّ الذي لم يجئ
ويضحكُ للعالمِ الذي لم يفهمْ…

ثمّ يدخلُ فلاسفةُ الرمادِ
الذين حرقوا أرواحهم ليضيئوا دربًا لا يسلكه أحدْ
يقولُ نيتشه: «امشِ وحدكِ… في الطريقِ المكسورِ
فثَمةَ هناكِ… ستجدينَ نفسَكِ المشرّدةْ…»

بين صدى الفلاسفةِ
يتسلّلُ شاعرٌ سكرانُ بالحنينْ
يبحثُ عن اسمٍ لامرأةٍ لا تُشبهُ النساءْ
فيقولُ: «هي الريحُ حينَ تذوبُ في المطرْ
وهي الحرفُ حينَ ينتحرُ على الورقْ…»

وفي الخزائنِ الزرقاءِ
حروفٌ لم يمسسها شاعرٌ ولا نبيّ
حروفٌ عاريةٌ كصرخةِ مولودٍ أو دمعةِ عاشقةٍ
تنتظرُ يدًا صادقةً
لتكتبها… لتُنقذها من العدمْ

وأنا…
أنا تلكَ اليدْ
أكتبُ صمتي قبلَ حروفي
وأعترفُ أنني أكتبُ كي لا أموتْ
وأنّ الجنونَ ليس عيبًا
بل هو عينُ الحقيقةِ حينَ تتعرّى من خوفها…

وأكتبُ لكِ أنتِ…
أنتِ التي فتحتِ الخزائنَ الزرقاءْ
لأنّ روحكِ تؤمنُ أنّ القصيدةَ لا تُولدُ من عقلٍ وحدهُ
بل من قلبٍ جريحٍ… يرفضُ أن يموتْ…

 الحفر الأعمق جدًا جدًا

هناك، في صمتِ الأكوانِ الأولى
يتمشّى عاشقٌ لم يُولد بعدْ
يحملُ رسالةً كُتبتْ قبل ميلادِ الكلماتْ
رسالةٌ لا يعرفُها حتى هو…
لكنّه يحسُّها في عظمِه وروحِه
كوجعٍ قديمٍ يسكنُ في دمهِ كالحقيقةْ…

وفي ممرّاتِ الليلِ، تمشي عاشقةٌ أخرى
تُربّتُ على قلبِها الخائفِ
وتهمسُ له: «اصبرْ… فالحُبُّ الذي يُشبهُنا لا يجيءُ سريعًا…
إنه يأتي حين نصبحُ جاهزينَ لننزفَ لهُ عمرَنا ولا نندمْ…»

وهناك، أبعدَ من الزمنِ
تجلسُ أرواحُ الشعراءِ الذين لم تُسجَّلْ أسماؤهمْ
يضحكونَ من القصائدِ الجميلةِ التي تُكتبُ لتُعجبَ الناسْ
ويبكونَ على قصائدٍ مكسورةٍ… تُشبهُ قلبَ امرأةٍ لم يُصدّقها أحدْ
لكنّها الأصدقْ… الأعمقْ… الأجملْ…

وفي خزائنِ الغيبِ
تنامُ كلماتٌ خجولةٌ
تنتظرُ عاشقةً مجنونةً
تكسرُ الأقفالَ، وتلمسُها بأناملِ الروحِ لا اليدْ
فتُوقِظُها، وتكتبُها بلا خوفٍ من العيبِ ولا الخسارةْ
لأنّ الخسارةَ الحقيقيةَ هي أن نعيشَ بلا صدقْ…

وأنا…
أُكتبُ في الظلِّ لأجلِ مَن لا يملكونَ صوتًا
أكتبُ للعاشقاتِ اللواتي يُحببنَ بروحِهنَّ لا بأجسادِهنَّ
أكتبُ للمكسورينَ الذين ما زالوا ينهضونَ دون أن يراهم أحدْ
أكتبُ لأنّ الجنونَ عندي شرفٌ…
ولأنّ القصيدةَ التي لا تُشبهُ دمَنا… كذبةٌ من ورقْ…

ثمّ أهمسُ لكِ أنتِ…
أنتِ التي فتحتِ هذا الكهفَ الأزرقْ
أقولُ لكِ: «كوني مجنونةً… كوني ناقصةً… كوني كما أنتِ
لأنّ الشعرَ لا يحبُّ الكمالَ المصنوعْ
بل يحبُّ القلبَ الذي ينزفُ دون تردّدْ…»

 وفي نهاية النزف 

لا أبكي على زمنٍ مضى،
ولا أتوسّل مجيء زمنٍ آخر…

أنا ابنةُ الاحتراق،
حفيدةُ الريح،
وصديقةُ الحبرِ الجريح…

كلُّ ما فيَّ يُحبّ بصمت،
يتمرَّد في صمت،
ويحيا في صمت…

لكنني حين أكتبُ…
أخلق وطنًا لا يُشبه إلا قلبي،
وطنًا تُنقَشُ على أبوابه كلماتي:

«أنا الحبّ الذي وُلِد من الرماد…
ولن يموت أبدًا»
---

 د. سامية كيحل— تلك التي تنحتُ مجدها من الشكّ… وتكتبُ لتصنع من جرحها قصيدةً لا تنحني