استفتح مقالي بمقولة للصحفي الفلسطيني احمد الشيخ والتي قال فيها : " كان من الطبيعي ان يُحقق الاعلام العربي بفعل الزمن تطوراً تُمليه دورة الحياة ، لكن ثمة ظروف حالت دون بلوغ ذلك التطور حد الصنعة".
وُجِد الإعلام لتلبية حاجات افراد المُجتمع الفكرية ، والمادية ولمُعالجة القضايا التي تهم المُجتمع بدلاً من السكوت عنها وجعلها تتفاقم وتصنيفها في بند المسكوت عنه علانيةً والمُمارسة لها سراً.
في الآونة الاخيرة انحرف الاعلام عن مساره الذي وُجِد لأجله وفقد مهنيته ولم يعُد إعلاماً يحمل هموم المُجتمع افراداً وجماعات ، بل أصبح الاعلام سيفاً مُسلطاً على رقاب الشعوب وحِملاً ثقيلاً عليه بسبب ما يُقدم من برامج واعمال درامية وسينمائية تحمل في مضامينها التنمُر على المُجتمع والتحريض على العُنف المُجتمعي واصبحت عملية تقديم الشخصيات العنيفة أو المُنحرفة على حدٍ سواء تتم في اطار من تعليب العقول وعرض تلك الشخصيات وتقديمها للجمهور المُتلقي بطريقة تجعل المُتلقي يتعاطف مع تلك الشخصيات بل يتجاوز الأمر الى الدفاع عن تلك الشخصيات واقناع المُتلقي بمُبررات انحراف اتلك الشخصيات الهزيلة وشذوذها عن المُجتمع ومثل تلك الشخصيات الزوجة الخائنة او الزوج الخائن ، الابن او الابنة العاقة او العاق بوالديه ، تُجار المُخدرات ، مُدمني المخدرات ، وغيرها من الشخصيات المُنحرفة التي يُمارس المُجتمع العربي بحقها الوصمة الاجتماعية ، في الواقع نعم هذه الشخصيات موجودة حقيقةً وليس فقط في العالم الافتراضي ، ولكن الاعلام يُساهم بتقديم تلك الشخصيات بغلاف يجعلنا نستصيغها ويجعل الافراد يتقبلون فكرة وجود زوجة خائنة او أي شخصية اخرى تُحيط بها الوصمة الاجتماعية وتقبل تلك الشخصيات بشكل طبيعي ومعقول جداً ، وتزداد المُشكلة حينما يكون من مُتلقي هذا الإعلام اجيالاً لا تزال في طور النمو وفي مرحلة تكوين الشخصية والاتجاهات والقناعات والطبائع ولم تصل لمرحلة النضوج العقلي والادراك لما يدور حولها وتتخذ من تلك الشخصيات قدوةً لها ومثالاً يُحتذى به ، وعندما يتم طرح تلك الشخصيات بقالب جميل وجذاب من خلال ابطال لديهم قاعدة جماهيرية عالية وخصوصاً لدى شريحة الشباب دون مُناقشة الظواهر الاجتماعية السلبية مُناقشة بناءة وعلمية تهدف الى ايجاد حلول لها للحد من استفحالها وتفاقُمها في مُجتمعاتنا العربية.
الإعلام المُتنمر والعولمة وجهان لعُملة واحدة ويُشكلان احدى أهم اذرُع عولمتنا اخلاقياً واجتماعياً ، وقيمياً ، فحتى الاعلام كان له الدور الكبير في التأثير على المنظومة القيمية والاخلاقية بشكل سلبي والتي هي بالأصل في طريقها للتدهور ، فيبدو أننا اصبحنا نعيش في وقتٍ اكثر انحداراً من ذي قبل وفقدت الأشياء هيبتها وذهبت نكهتُها واصبح معيار العُري والبوتيكس هو معيار اختيار مُعظم ما يُطلق عليهم إعلاميين ، فلقد تمكن الاعلام العربي حتى من مؤسسة الأسرة..........كما قال الاديب والكاتب والصحفي الفلسطيني يوسف ضمرة :
" لعب الاعلام العربي لُعبة الصورة واستخدمها كما لم يستخدمها من قبل ، وتمكن من اسرنا بهذه الصورة".
نعم لا بُد من ان نعترف آسفين ان الاعلام العربي بدأ يُحلق خارج السرب وساهم بنشر الثقافات الغربية ونمط الحياة الغربي والحُرية الغربية التي تتنافى في الكثير منها لأعراف وعادات وتقاليد المُجتمعات العربية التي لا تزال مصبوغة بالصبغة العشائرية بالرغم من عولمتها ظاهرياً.
وكانت نتيجة هذا الإعلام المُتنمر وساسته والقائمين عليه الاستقواء على المُجتمع واصبح يتنمر عليه فاقداً مهنيته وانسانيته ، بل أصبح الاعلام وحتى مواقع التواصل الاجتماعي من أهم وسائل نشر الرذيلة من خلال تناقُل مقاطع الفيديو والفضائح التي تحدث والتي في الاصل أن يتم الستر عليها ومثال على ذلك مقطع الفيديو الفاضح لشاب وفتاة الذي انتشر قبل فترة كالنار في الهشيم بين رواد مواقع التواصل الاجتماعي ، ولا ننسى الفيلم الاردني "جن" الذي قام بتوصيل نمط الحياة العربي بغلاف غربي لا يمُت له بأي صلة واقعياً وما احتوى عليه الفيلم من شتائم ومسبات تتنافى مع القيم والاخلاق في مُجتمع عربي عشائري مُحافظ حتى لو ظاهرياً ، فحتى لو كانت تلك الشتائم والمسبات موجودة واقعيا فبالترويج والتسويق لها عبر مواقع التواصل الاجتماعي والاعلام المُتنمر على المُجتمع اصبح دور الاعلام سلبي وليس ايجابي.
يجب إعادة النظر بمفهوم الاعلام واهدافه ووظائفه ومؤسسة الاعلام ككُل ، وتشديد معايير اختيار الاعلاميين وفق منهج يحترم الرسالة الاعلامية ومهنيتها ويحترم ويقدر عقل المشاهد العربي وذوقه وثقافته ويحترم العُرف العام والعادات والتقاليد وحُرمة مُجتمع كامل .
ففي اعلام هذا العصر ابتلي فيه المُشاهد العربي بإعلاميين لا يُفرقون بين الحضارة والتأخر وما بين الرُقي والتخلف والمزج بين الاصالة والمُعاصرة ، لقد اثقل الاعلام العربي كاهل الفكر العربي وحطت منه ومن قدره ورجعت به الآف السنين للوراء وشوهت كل ما هو جميل في امتنا العربية والاسلامية ، فلا تنهض الامة ويرتقي فكرها إلا بالإعلام المُحترم المُلتزم النظيف المهني والذي يوظف نفسه لخدمة المُجتمع ولا يسير في خط مُتقاطع مع تركيبة ونسيج المُجتمعات العربية.
وهُنا اختتم مقالي بمقولة للمرحوم الاديب والشاعر الاردني امجد ناصر وقال فيها " يعكس المثل العربي الشهير كلام جرايد الذي يعني كل مالا يعول عليه من كلام واقوال مازقنا التاريخي نحن كعرب مع وسائل الاعلام ، ولا ادري ان كانت هنالك امم تشاطرنا هذا القول".
#مُلاحظة: استخدامي لمُصطلح التنمُر الإعلامي ليس تُهمة الصقها بالمؤسسة الإعلامية ........وإنما توصيف للدور السلبي للإعلام في وقتنا الحالي بسبب فقدانه لمهنيته ، فأصبح الإعلام الحالي والمُجتمع ككُل يسيران في علاقة صراع تصعد نحو الهاوية.