تسعى ھذه (المقالة) إلى الوقوف عند عتبات روایة (أدركَھا النسیان) التي أصدرتھا الروائیة الأردنیّة (سناء شعلان) في العام 2018 عن دار أمواج للطباعة ، والنشر ، والتوزیع في عمّان، وقد وصفتھا الروائیة بأنّھا انتصار للذّاكرة الإنسانیّة حیث یقبع الدّرس البشريّ بكلّ تفاصیلھ القبیحة ، والجمیلة في الحیاة ، لكنّ النّصر والبقاء یكون حلیف الحق ، والحقیقة مھما طغت الأكاذیب على التّفاصیل، فھي روایة نقد سیاسيّ ،واجتماعيّ، وأخلاقي ، فضلا عن أنّھا روایة (عتبات نصیّة) لما تشتمل على شفرات تحظى بقیمة تشكیلیّة، وسردیّة عالیة أسھمت في رسم صورة المسرود، وتوجیھ القراءة نحو فھم عمیق لطبیعة الإشكالیّة في مجتمع الروایة .
أولى عتبات الروایة:(الغلاف) الذي یُعدّ (أیقونة) تحیل على مضمون ، وتعمل على تسریع الدخول إلى القراءة ، فھي تمتلك شكلا بصریّا یمكن الاھتداء إلى علاماتھ اللسانیّة التي تنفتح على جملة عتبات ھي : العنوان ، والأیقونة ، واسم المؤلف ، واسم الدار الناشرة ... كان غلاف الروایة قد أشبع باللون الصحراويّ المائل إلى الصفرة لیذكّر بماضي الشخصیّتین (الضحّاك) و(بھاء) اللذین عاشا طفولتھما الأولى في صحراء الیتم والفاقة، وفي أعلى جانبھ الأیمن برزت كلمة (روایة) محیلة على مرجعیّة أجناسیّة لھا موقعھا الیوم في الكتابة السردیّة وتلقیھا، وتحتھا مباشرة ظھر عنوان الروایة (أدركَھا النسیانُ) بحجم كبیر أسود اللون دال على الحزن والموت، وھو ینفتح على تركیبیّة نحویّة مؤدّاھا تقدم المفعول بھ (الھاء) التي تعود على (البطلة) على الفاعل في لعبة التقدیم والتأخیر التي تحیل على ادراك للنسیان عجیب ! ، وللعنوان وظائف أربع تمكّن منھا النقد السیمیائيّ ھي : التعیین: أي تعیین اسم الكتاب الذي بھ سیشتھر و یُتداول، والوصف : أي تحدید مضمون الكتاب، والإغراء: أي إغراء القارئ باقتناء الكتاب، والإیحاء: أي التلمیح بالقیمة الإیحائیّة للكتاب التي تسھم في تقبلھ ، وھذه الوظائف تبدو واضحة في عنوان الروایة الذي ینتمي دلالیّا إلى عدم الاستذكار الذي یتھاون في استرجاع الذكرى ، أو المناسبة فیدعھا تتھاوى بین غياهيب الضیاع ، والفقد، والبؤسوإذا كان النسیانُ معلوم الدلالة عند المتلقي فإن ضمیر الھاء في العنوان یحیلھ على امرأة یسكت العنوان عن تحدید اسمھا بسبب إیجازه ، وافتقاره إلى التوضیح لیترك أمر تفصیلھ إلى المتن الذي أخبرنا أنّھا (بھاء) مریضة بالسرطان ، وقد آن لھا أن ترتاح في مرحلة من عمرھا الأخیر ، وأن یدركھا نسیان الماضي ، في ظلّ حضور مكثّف للحبیب ، ویظھر العنوان ثانیة في أقصى الیسار من أسفل الصفحة الثانیة للغلاف الداخلي لیكون سیّد النقش في الصفحة كلّھا ، تاركا للروائیّة في قابل الأیام تسجیل إھداء الروایة لمن تشاء على بیاض الصفحة الواسع ، وللقارئ أن یجد الغلاف الأخیر للروایة مشتملا على صورة الروائیّة ، وھي ساھمة في أمر ما.
أمّا أیقونة الغلاف فقد توسّطت المساحة الكائنة بین العنوان، واسم الروائیّة ، وھي تشتمل على صورة منزل أوربيّ محاط بالثلج ،وأشجار كثیفة یستدل المتلقي فیما بعد أنّھ منزل (الضحّاك) في منفاه الجمیل ، وللمتلقي أن یوازن بین اللونین : الصحراوي ، والثلجي لیدرك مقدار المفارقة .
ما بین العنوان الرئیس ، والثاني تتسّوط صفحة (المعلومات) مشیرة بعنایة ببلیوغرافیّة إلى رقم الطبعة، وتأریخھا، واسم الروائیّة ، ودار النشر ، ورقم الإیداع ، والرقم المعیاري الدولي ، والمواصفات الأجناسیّة للكتاب ، فضلا عن تحدید مسؤولیّة المؤلّفة ، وحقوق الناشر ، وإیمیل دار النشر مصحوبا بأیقونة الدار.
أخذ عنوان الروایة موقع الصدارة في أعلى الغلاف الثالث الداخلي ، وتحتھ عنوان مواز آخر(حكایة امرأة أنقذھا النسیان من التذكّر)،والعنوان الموازي لھ سمة شارحة مھمتھا تفسیر العنوان الرئیس ، والإحالة على نوعھ النثري، لكنّھ في روایة (سناء شعلان) جاء ملتبس الدلالة في لحظة تلقیھ الأولى ، فالعنوان الأول یحیلُ على ادراك النسیان فحسب ، وفي العنوان الموازي تتصدّر النص كلمة (حكایة) لتشیر إلى قصّة تقلیدیّة ، أو محكي مشھور یتم نقلُھ شفاھا ، والحكایة ھنا تتّسع لأن تكون روایة امرأة انقذھا النسیان من التذكّر، فالعنوانان یحیلان على تسویغ النسیان الذي كان نعمة الحال لبهاء .
في صفحة (المقتبس) الذي ھو عتبةٌ موجزةٌ مستعارةٌ من خارج المتن دالّةٌ على قصده ، كانت الروائیة قد شكّلتھا من ثلاثة نصوص أخذتھا من ملحمة (مزامیر العشاق في دنیا الأشواق) ھي: (من عشق حجّة على من لم یعشق ، ومن تألم حجّة على من لم یتألم) و(عندما تحترق الأوطان یصبح العشق محرما) و(إنّھ الیتم في كل مكان)، ھذه الاقتباسات یمكن تفكیكھا بحسب الوصف الآتي : یشیر متن الروایة في ص201 إلى أن (مزامیر العشاق...) كتابٌ ملحميٌّ من سبعة أجزاء ألّفھ الضحّاك ، وھذا یعني أنّ المقتبسات من ابداع الروائیّة ، ولم تكن مستعارة ، وأنّھا وصفت على لسان الساردة على أنّھا (نجوم الأوریغامي)، وقد استعارتھا من فنون یابانیّة تعتمد طي الورق الملون ، والكتابة على ظھره لصناعة البھجة ، وأن ھذه (الأوریغامیّات) تستفتح بھا الروائیة فصول الروایة أیضا ، ومنھا ما كان جزءا من متنھا ؟ ولكن للتذكیر بصورة الألم ، والبؤس الذي یواجھ الحیاة.
عتبة إھداء الروایة كانت قد وُجّھت إلى الأدیب العراقي المغترب (عباس داخل حسن) بتوصیف أفضى إلى أنّھ مصلوبٌ تحت سماء القطب مثل نجمة الفینییق ، كنایة عن غربتھ ، فھو بحسب الإھداء : دافئٌ في زمن الصقیع، اسطوريٌّ على الرغم من مواجعھ، مخلصٌ للتذكّر ، یرسم دفئا على الصمت البارد...، لاشكّ في أنّ ھذا الإھداء قیّمٌ ببعده الجماليّ ذي المظھر التقابليّ الذي یتحكم بالصفة وضدھا، فضلا عن أنّھ إھداءٌ شخصيٌّ بوظیفة إشاریّة تتعلّق بطریقة الإتصال بالمھدى إلیھ ، كاشفا عن أھمیّتھ، وطبیعة التواصل معھ ، لكنّ ھذه العتبة بدلالتھا الإحالیّة سرعان ما تتغایر في المتن ص201لتكون إھداء خاصّا من (الضحّاك) إلى حبیبتھ في صدر الجزء الأول من الملحمة في مفارقة یوجبھا السرد الحدیث.
بعد عتبة الإھداء تواجھ المتلقي عتبة أخرى : بیاض صفحة تتوسطھا عبارة (إنني أراكَ) فھذا السواد في بیاضھ المكثّف نطقٌ صامتٌ عن حال الضحّاك ، ثم تتوالى سلسلة فصول الروایة التي لم تنصّ (الروائیّة) على أنّھا فصول ، فھي بافتتاحیّاتھا الاقتباسیّة (الأورتغانیّة) كانت بمنزلة الفصول إلى متن الروایة ، والفصول كلّھا بعنوانات دالّة على النسیان، وقد بلغت ثلاثین (نسیانا: فصلا) ، لتُختتم الروایة بعتبة (ما بعد النھایة) مؤكّدة خلوّھا من نھایة تقلیدیّة ، فقد قدّر لمتنھا أن یكون مفتوحا على تأویلات شتى، بدلیل نھوض عتبة (البدایة) في الصفحة الأخیرة من الروایة بتكرار لازمة (إنني أراكِ) التي كان مكانھا الاستھلال مع تغایر في شكل الخطاب بوصفھا نطقا صامتا عن حال بھاء ، وھذا یعطي فكرة عن دوران المتن حول نفسھ في حركة سرد مؤسطرة تنتھي فیھا الأحداث في نقطة ما ، ثمّ تعود في شكل دائريّ یسترعي الانتباه والتلقي.