تخيّل نفسك -والخطاب هنا ليس موجهًا لذباب وسائل التواصل الناسخين اللاصقين الناقلين المُشاركين المُشِيرين، بل لكل صاحب قلم حر قادر على تدوين أفكاره الخاصة بلغته الخاصة ونشرها بمسؤولية، ولكل صاحب رأي ناقد قادر على الوقوف أمام الآخرين ليعبر عن رأيه صوتيًا بسلاسة ووضوح دون تردد أو تلعثم.
تخيل نفسك مكان الملك عبد الله، وادعى رئيس أمريكا أنك حتمًا ستوافق على استقبال مليوني فلسطيني -في بلدك وبلدان إخوانك العرب- بعد تهجيرهم من قطاع غزة، فقررتَ بمنتهى الشجاعة ومسؤولية المواجهة أن تذهب إليه وتواجهه بردك ورد الدول العربية على ادعائه، لتكتشف أنك أمام شخصٍ هو الأكثر سُخفًا وشططًا وجنونًا ورعونة وكذبًا وتضليلاً على مستوى العالم، وقد نصب لك فخًّا على الهواء مباشرةً يحاول فيه أن يضع الكلام في فمك دون أي إشارات مسبقة.. فأي مخرجٍ من هكذا موقف كنت ستجده أفضل من المخرج الذي تجاوز فيه الملك عبد الله هذا الفخ؟
من يفهم في السياسة يدرك وحده –دون متابعة لأي أخبار أو إفشاء أي أسرار- أن أي زعيم عربي في الشرق الأوسط ينوي لقاء زعيم غربي بخصوص قضية شرق أوسطية، لا يمكن له إلا أن ينسق لموضوع اللقاء مع مجاوريه من الزعماء العرب، أو على الأقل مع من تعنيهم القضية التي تم ترتيب اللقاء بشأنها، وعليه، فمن البديهي أن يكون الملك عبد الله قد نسّق -للقاء حول تهجير الفلسطينيين- على الأقل مع فلسطين ومصر كدولتين متأثرتين بالموضوع مباشرةً، ومع السعودية كمملكة حاضنة للجميع، قبل توجهه لواشنطن للقاء ترمب.
وهذا يعني أن من كان يجلس قبالة "أهوج" أمريكا في ذاك المؤتمر الصحافي، صحيح أنه في بعض الجزئيات كان ملك الأردنّ، لكنّه –في الصورة العامة- كان لسانَ العرب، وأكد الملك ذلك في ردوده أكثر من مرة بأن هناك ردًا عربيا حازمًا وواضحًا لإخوانه الزعماء العرب ستسمعه واشنطن لاحقًا، وهو بذلك قطع الطريق أمام أي تأويلات أو ادعاءات أو تشكيكات حول الرد العربي بخصوص موضوع التهجير، خاصة بعد فوضى التصريحات الترامبية الكاذبة بالخصوص، وأكد الملك أمام العالم عبر وسائل الإعلام المختلفة وعلى الهواء مباشرةً –وبأجوبةٍ دبلوماسية ذكية وبكلماتٍ مُنْتَقاةٍ جيدًا- أن تصريحات ترامب حول ثقته بالموافقة الأردنية والمصرية على التهجير ما هي إلا تصريحات كاذبة، وأن العرب لم يقولوا كلمتهم بعدُ في هذا الموضوع، وستتلقى واشنطن ردهم الجماعي بعد اجتماعهم في وقت لاحق من هذا الشهر.
لهذا وذاك، ولنكن صريحين، لقد كان بإمكان الملك عبد الله ألا يذهب لواشنطن، وألا يقوم بأي فعل، ويجلس في قصره ولا يتفوّه بأي تصريح، تمامًا كالعديد من الزعماء الذين لا نراهم أو نسمع أصواتهم إلا في القمم العربية ثم يختفون إلى موعد القمة التالية، كان بمقدوره ذلك فيتجنّب النقد الذي سمعناه وقرأناه على وسائل التواصل ووسائل الإعلام، لكنه ملك وابن ملك، ولا يليق بالملك أن ينتظر من يقوم عنه بواجبه، أو يتأخر عن فعلٍ أو قولٍ متسلحًا بمقولة "لعلها تأتي من غيري"، بل تصدّر المشهد وأقدم بنفسه على الذهاب إلى عُقر البيت الأبيض وإيصال رسالة العرب وجهًا لوجه أمام من يحاول أن يوحي للعالم بأنه "هولاكو" العصر.
أما ما كان قد دُبّر للملك من كمين إعلامي مفاجئ قبل أي نقاش في القضية التي ذهب لأجلها، فذلك شأن الثعالب في واشنطن التي يليق بها الخروج عن آداب وأخلاقيات وأساسيات البروتوكولات الرسمية، واستطاع الملك الخروج من ذاك الكمين بذكاء دون أن يحيد عن آداب وأخلاقيات وسلوكيات وحكمة الملوك.
أكتب ما أكتب وأنا الفلسطيني الذي ينهي هذا العام خمسين سنة من عمره ولم يغادر فلسطين لحظة، ولم تطأ قدماه تراب الأردن كبوابة وحيدة للضفة الغربية إلى العالم الخارجي، وليس لي أي غاية أو حلم أو أمل خارج حدود فلسطين، فأكتب معبرًا عن قناعة ذاتية دون تطلّع لرضى أحد أو مصلحة خاصة عند أحدٍ أيًا كان، لكنني عشت عمري لم أتردد يومًا في البوح بقناعاتي أو كتابة آرائي، رغم ما أواجهه من مضايقات وتطاولات بسبب البوح بهذه القناعات والآراء أو نشرها.
هامش لا بد منه:
99% من الجماهير في الملاعب ينصّبون أنفسهم نقّادًا لأداء اللاعبين والحكام في الملعب وهم قد يسقطون على وجوههم إذا تعثروا بكرةٍ في الشارع، نراهم مثلا يستشيطون غضبًا على بطل كأس العالم لكرة القدم حينما يصوّب تجاه مرمى الخصم فترتد الكرة عن العارضة، رغم مهارته العالية جدا التي ساعدته على تخطي العديد من اللاعبين قبل أن يتمكّن من القيام بركلة التهديف خلال أجزاء قليلة من الثانية محاصرًا بكل لاعبي دفاع الخصم.
هكذا هم المتفرجون دائمًا، تمتلئ السماء بصرخات انتقاداتهم ولا يصدر عنهم أي فعل خاطئ، لأنهم ببساطة متفرجون فقط.. فكيف سيخطئون وهم لم يقوموا بأي فعل ولم يسبق لهم أن تعرضوا لمحاصرة دنيئة من جهاتٍ أربع وخرجوا سالمين